الحزب السوري القومي الاجتماعي
عمدة الخارجية
الشرعية المنبثقة من الشعب
أيها الشعب اللبناني النبيل
في خضمّ ما يعانيه العالم اليوم من جائحات ومشاكل اقتصادية وغيرها، تكثر النقاشات عن دور الدولة في لبنان.
تارة نسمع عن “حريّة وسيادة واستقلال”، وضرورة حصرية السلاح بيد السلطة الشرعية، وطورًا عن فرض هيبة الدولة ومكافحة “التهريب”، وأحيانًا عن كسر العزلة واحترام المواثيق الدولية، وعن اعتبار هذه شروطًا لقيامها. أمّا الجديد، فهو اعتبار أنّ احترام الشرعية الدولية تتضمّن المشاركة في الحملة الأمريكية لحصار الشام.
في العودة إلى تحديد ماهية الدولة بصفتها جمعية الشعب الكبرى، وفي العودة إلى مهامها الأساسية، يكون دورها الأوّل تأمين مصلحة الشعب. ومصلحة الشعب هذه تكون أوّلًا أن يحيا حياةً كريمة، يستثمر ثرواته الطبيعية والبشرية للرقي والتسامي، على أرض وطنه المحرّرة من الاحتلالات الصريحة أو المقنّعة.
إن أردنا إيضاح القصد من هذه المعادلة بالأمثلة التطبيقية مما نعيشه اليوم في لبنان، نرى ما يلي:
أظهرت التجربة أنّ الاقتصاد الريعي الاستهلاكي هو اقتصاد هشّ، ينهار بقرار بسيط من المتحكّمين به، فإذا بالشعب يغرق في فقر مدقع.
لقد اختارت السلطة في لبنان، خلال الأزمة الماليّة الأخيرة، الوقوف إلى جانب المستبدّين بالشعب من مصرفيّين ورعاتهم السياسيين، بينما نحن نرى أن دور الدولة الحقيقي كان يجب أن يكون حماية الشعب من تغوّل هؤلاء وإلزامهم بسِداد حقوق الناس بدل حجزها، وإلزامهم بإعادة ما نهبوه من الأموال العامة والخاصة بدل تسهيل تهريبه إلى الخارج.
كذلك، فإن هذه السلطة، التي قررت اعتماد الاقتصاد الريعي منذ تحكّمها بمفاصل المؤسّسات أواخر القرن الماضي، ضربت بعُرض الحائط كلّ القطاعات المنتجة إلى حدّ تفليسها وإخفاء أثرها من الدورة الاقتصادية. أمّا الدولة الحقيقية، فدورها ينبغي أن يكون تأمين الحاجات الأساسية للشعب مع تعزيز الإنتاج المحلي وحمايته، تخطيطًا وتشريعًا. وفي حال عدم كفاية الإنتاج، فدورها يكون تأمين الحاجة بأفضل الشروط من حيث الكلفة والمعايير.
هنا أيضًا، انكفأت السلطة الحاكمة عن دورها في تأمين حاجات مواطنيها وحماية الإنتاج – مهما كان ضئيلًا – بالاتفاقات والضوابط الجمركية، مما دفع الكثيرين إلى تلبية هذه الحاجات عبر ما يسمّى بالتهريب واللجوء إلى سبل خارج إطار المؤسّسات الرسمية. وبدل أن تقوم بعقد اتفاقات ثنائية مع الكيان الشامي لتبادل المازوت بالكهرباء أو الحبوب وسواها من المواد الغذائيّة والسلع الضروريّة غير المتوفّرة في السوق اللبنانية والتي ترتفع أسعارها باضطراد مخيف، اختارت أن تشارك بحصار الشعب في لبنان والشام على حدّ سواء، وذلك إرضاءً لأوليائها الخارجيّين.
أمّا في فضائح الصفقات المرهقة للخزينة والمواطن، فحدّث ولا حرج عن غضّ النظر أو في أحسن الحالات تباطؤ القضاء في الملاحقة والمحاسبة، مع الأخذ بالاعتبار الحسابات الطائفيّة والتحاصصات بين “أقطاب السلطة” الزمنية والدينية.
وبعد، يتجلّى نهج هذه السلطة الانكفائي بشكل ساطع في كلّ ما يتعلّق بشؤون الدفاع عن الأرض والشعب، وذلك منذ “الاستقلال”: فمن قبول أركانها باحتلال القرى السبع خلال مفاوضات الهدنة عام 1948، إلى عدم مواجهة قوات الاحتلال خلال اجتياح 1978، وقبول نتائج اجتياح 1982 المتمثّلة بانتخاب بشير الجميل رئيسًا للجمهورية، وتوقيع اتفاقية الإذعان في 17 أيّار، وصولًا إلى الانصياع لرفض تسليح الجيش اللبناني بما يلزم لفرض توازن عسكري، إلى درجة اتخاذ تدابير بحقّ من يقوم بأيّ عمل تفرضه كرامة الشعب ومصلحته ضدّ تجاوزات العدوّ، والسكوت عن الخروقات البريّة (عبر العمالة والتجسّس)، والبحريّة، والجوية المتكرّرة، وبعض هذه الخروقات وسيلة للعدوان على “دولة شقيقة” في الحدّ الأدنى حسب المصطلحات اللبنانية.
نعم… إنّ تاريخ هذه السلطة يشهد بأنّها قرّرت عدم القيام بواجبها بحماية أرضها وشعبها ومواجهة من يعتدي عليهما، فلم يبقَ للشعب إلّا أن يؤمّن مقتضيات الدفاع والتحرير بنفسه، فأنشأ المجموعات والفصائل المسلّحة تباعًا، وانخرط في الفاعل منها إلى حين تحرير الجزء الأكبر من الأراضي المحتلّة عام 2000، وثابر على المقاومة إلى أن حقّق معادلة ردع متبادلة مع العدوّ.
هذا غيضٌ من فيض يظهر واجبات الدولة وحقوق المواطن وتقصير السلطة.
أخيرًا وليس آخرًا، وفي حين يغرق البعض في تفاصيل الأشكال ويجادلون في شرعية هذا السلاح أو ذاك، أو في شرعيّة “التهريب” استيرادًا وتصديرًا، أو شرعية الاعتراض على الاستبداد بأشكاله المتعدّدة، يهمّنا أن نلفت نظر هؤلاء إلى أنّ الشعب هو مصدر الشرعية ومقياسها الوحيد، وأنّ تحقيق مصلحة الشعب العامّة هو المعيار الوحيد لتحديد شرعيّة أو عدم شرعيّة أيّ سلطة أو عمل أو سلاح. فلنخرج من تسلّط العناوين الكبيرة الفارغة التي يسوّقها بمهارة الاستعمار المبطّن، ويحملها عن غفلةٍ حينا بعض مواطنينا، ولغاية في نفس “يعقوب” عند البعض الآخر، لنلتقي جميعًا على ما يحقّق كرامة ورقيّ هذا الشعب بتحقيق استقلاله السياسي كشرط أساسي لاستقلاله الاقتصادي وتحقيق سيادته الحقيقيّة على قراره ومقدّراته، فتتحقّق شرعيّة أيّ سلطة يختارها لتحقّق مصلحته.
فلتحيَ الشرعية المنبثقة من الشعب ومصلحته، العاملة على حفظ حقوقه ومصيره بالحقّ وبالسلاح، ولتحيَ سورية.
المركز في 7 حزيران 2020
عميد الخارجية الرفيق هاني فياض