من منا لم يزر مدرج بصرى ولم تسحره إطلالته الرائعة التي تختصر أزمنة وحضارات، ففي جلال وصمت تربض الأوابد التاريخية التي شهدت تاريخا عريقا من البطولات والمآثر التاريخية. تلك الأوابد العظيمة التي ما هزتها المعارك المتتالية وغضب الطبيعة عبر التاريخ، وبقيت منتصبة تعلن تحديها لكل عوامل الزمن. بصرى التي تشهد تعدد أجناس وأديان المتعاقبين على سكناها، تُرى ماذا ستقول قلعتها؟ وأي أسرار يمكنها أن تبوح بها لو نطقت حجارتها السوداء؟ بصرى مدينة الحكايات والأسرار والحمامات الفريدة من نوعها صمتها يحدث الزائرين عن تاريخها المشرق وحاضرها الذي جعلها منارة السياحة العالمية وقبلة الدارسين والباحثين ولا زالت سراديب وأقبية قلعته الشهيرة مثار فضول لكل زائر وسائح

بصرى ملتقى الحضارات الغابرة كما جاء في كتب التاريخ والدين، تحدثك أوابدها عن حضارات وديانات الشعوب الغابرة والتي تركت آثارها الوثنية والمسيحية والإسلامية لتبقى شاهدا حيا على تجاور الأديان والحالة السورية من التآخي، وشاهدا على أحداث تاريخية اقتصادية وثقافية ودينية تعود إلى حضارات متعددة (كنعانية، أكادية، امورية، آرامية، نبطية، غسانية، رومانية، وإسلامية). ويستطيع الزائر ملاحظة التجاور الحميم بين الكاتدرائية ودير الراهب بحيرا من جهة، وبين جيرانها الجامع العمري وجامع مبرك الناقة والجامع الفاطمي من جهة أخرى

مدينة بصرى اسكي الشام ١٩٣٥ صورة جوية
ولعل من أهم المعالم التاريخية في مدينة بصرى قلعتها التي تتوسط المدينة بجلال ووقار ترحب بالقادمين من كافة أصقاع العالم لمشاهدتها. تلك القلعة التي تحيط بالمسرح النصف دائري هي عبارة عن تحصينات أيوبية وأبراج عند الزوايا الشمالية الشرقية والشمالية الغربية، وتضم الأسوار العلوية حاليا متحفا، والبرج الشمالي الشرقي، والبرج الجنوبي الغربي ومجموعة فنون شعبية ومقهى ومجموعة من المنحوتات والمخطوطات. وتستمد بصرى شهرتها من مسرحها العظيم والذي يعتبر الأجمل والأكمل في العالم وهو يقع ضمن القلعة ويتسع لحوالي 15 ألف متفرج، ويعتبر المسرح واحداً من المسارح الهامة في الحقبة الرومانية، وقد أعيد أنشاء جزء كبير منه في العصر الأيوبي. وقد أبدع مهندسه بالمضاهاة والتماثل في جميع أجزائه التي تستوي جميعها في القياسات وتتفق في الأسلوب والزخرفة.ولتضخيم الصوت وتقويته فقد اهتم مصمم هذا الصرح بأصول السماعيات اهتماما بالغا، فضبط شكل البناء العام وعمق المسرح وارتفاعه بالنسبة لجلوس المتفرجين. وزينوا حنايا المسرح بطبقتين من الأعمدة والرفاريف الكورنثية لتستقبل أصوات الممثلين وتضخّمها

ومن المعروف أن حوران كانت خزان حبوب الإمبراطورية الرومانية، وكانت تعتبر منطقة غنية وقد أشيد فيها العديد من الأوابد العظيمة. ومن المعروف أيضاً أن مدرج بصرى بني بأيدي أبناء المنطقة الذين عرف عنهم مهارتهم بفن البناء، ولكن ربما من غير المعروف أن مهندس هذا الصرح العظيم والذي يتميز حتى عن “الكولوسيو” المدرج الروماني الشهير في روما هو مهندس دمشقي هو أبولودور الدمشقي، ورغم أننا لم نعثر على مرجع عربي يؤكد هذه المعلومة، إلا أن سكان بصرى وبعض الأدلاء السياحيين والأهم أن كل علماء الأثار الإيطاليين يعرفون “أبولودور ” بل إن البعض يلقبونه بمهندس روما.
أبولودورو باني أول جسر على نهر الدانوب ومهندس عمود تراجان في روما ومخترع هندسة الصوت والضوء في المدرجات .من هنا نتوجه إلى من يصر على القول أن هذه المدرجات هي اختراع روماني، ونطلب منه ان يعيد النظر في معلوماته. فهذه المسارح موجودة قبل الرومان، والقيمة المهمة المتعلقة بهندسة الصوت والضوء تمت من خلال الهندسة السورية وليس الرومانية، وبناء على ذلك أستدعي “أبولودورو” إلى روما لوضع علمه في خدمة الإمبراطورية. من هنا نجد أن هذه المسارح هي اختراع سوري قبل أن يكون اختراعًا رومانيًا، لا بل إن هذه المسارح قد أسيء استخدامها من قبل الرومان، حيث كانت المكان الذي يقدم فيه الضحايا للوحوش. وكلنا يذكر رفض الملكة زنوبيا ملكة تدمر استعمال مسرح تدمر لأغراض وحشية. حيث ان الرواية تقول إن الملكة زنوبيا استعملته لمرة واحدة لمعاقبة أحد المجرمين وفي لحظة إطلاق الوحوش أطلقت بدلاً عنهم ديك مسالم عادي فضج الحضور بالضحك واعتبرت الملكة آنذاك أن العقاب النفسي الذي ناله المتهم هو كاف لتلقينه الدرس المناسب. فإذا كان المسرح بني بأيدٍ سورية وبمال أهل المنطقة وبهندسة سورية أفلا يحق لنا أن نقول إنّ هذا المدرج هو مدرج سوري وأن نفخر بأن هذا الصرح هو من نتاج أهل المنطقة؟ هل يمكن أن نكون منصفين مع أنفسنا ونفخر بما صنعه أجدادنا مستلهمين منهم العبر لبناء صروح العمارة والإنسان في وقتنا الحالي!؟ أم ما زلنا نروج لغيرنا وننسى عظمة أبناء هذه الأرض؟

Bosra: le superbe theatre
كفى نرجوكم، عودوا إلى انتمائكم الحضاري ولا تبخسوا عظمة هذا الانتماء، فالانتماء إلى هذه الأرض الطيبة هو انتماء إلى الإنسانية وليس إلى عرق أو نسب. لسنا منغلقين ولسنا من دعاة التفكير بأطر ضيقة أو “بعنصرية” ولكن في نفس الوقت نحن نفخر بما أنتجه هذا الشعب للبشرية. ومن هنا نرى أنه يجب أن نتكلم عن مدرج بصرى على أنه مدرج سوري بُني في الحقبة الرومانية، وبذلك ننصف أجدادنا الذي بذلوا المال والجهد والعلم لإنشاء مثل هذه الصروح، ونعزز ثقتنا بتاريخ وقدرة هذا الوطن الغالي. إنها دعوة للتفكير بطريقة مختلفة بأوابدنا وبتاريخنا، ونحن بهذا نقبل النقد الموضوعي والعلمي، لعلنا بعد جولة التفكير هذه، نعيد النظر بما نملك ونبدأ بفهم وترويج تاريخنا لأنفسنا أولاً، لأن هذا هو الأهم وبعد ذلك يأتي الترويج لهذا التاريخ وهذه الأوابد للسياح الأجانب.
بقلم مالك الحداد
لمحة عن مسرح بصرى

يعطي هذا لمسرح مدينة بصرى خلوداَ أبدياً كونه المسرح الوحيد الكامل في العالم الذي بقي محتفظاً بمعظم أقسامه. حيث يعتبر هذا البناء من المسارح القديمة التي صمدت أمام كوارث الطبيعة كالزلازل ويجمع بين روعة البناء وقوة العمارة وبني هذا المسرح في القرن الثاني الميلادي. المدرج منحوت من الحجر البازلتي ويظهر بكامل أقسامه، وتبدو منصة التمثيل مكتملة وهي مزينة بمحاريب وأبواب كبيرة. ويتوج البناء رواق مسقوف على الشكل المعروف في الملاعب الرومانية ولكنه اندثر فيها جميعاً والرواق العلوي كان القسم الوحيد المخصص للنساء

أقيم هذا المسرح فوق قلعة من العصر النبطي والمدرج مبني على شكل المسارح الهلنستية، وترتفع جدرانه إلى 22 متراً . يتسع المدرج لأكثر من خمسة عشر ألف متفرج، والمدرج مقسوم إلى ثلاثة أقسام مفصولة عن بعضها بواسطة ممشى تفتح عليه الأبواب المعدة لدخول وخروج المتفرجين. يتألف القسم الأول من 14 درجة والثاني من 18 درجة والعلوي من 5 درجات، وعلى الأغلب فلا بد من وجود مقاعد خشبية تحت الرواق العلوي المستند على أعمدة الطراز الدوري وقد استعاضوا عن بناء حواجز بين كل الأقسام الثلاث
كما هو معروف في المسارح القديمة بمظهر المقاعد الحجرية المصفوفة إلى جانب بعضها البعض في أعلى كل قسم وتحتفظ ساحة العازفين ببلاطها الأساسي على حالته القديمة الذي نستدل منه على أن هذه الساحة كانت تستعمل لإقامة الطقوس الوثنية في الأعياد والمواسم المعينة لهذه الغاية علاوة على جلوس العازفين ويبلغ عرض منصة التمثيل 45.5م بعمق 8م وكانت أرضها مصنوعة من الخشب الذي يستند على قواعد مبنية من الحجر بشكل قوائم مربعة الشكل تسمح بجلوس الملقنين تحتها وينفذ الملقنون تحتها إلى مكانهم تحت أرض المنصة بواسطة باب مبني في الممشى الخلفي الواقع وراء واجهة المسرح وكانت هذه الواجهة مزينة بثلاثة طوابق من الأعمدة المنحوتة على الطراز الكورنثي ومزينة بمحاريب مغلقة معدة لوضع التماثيل. وتتألف الأعمدة من قواعدة وتيجان رخامية أما جذوعها فتتألف من الجحر الكلسي وكان السقف العلوي للمسرح مصنوعا من الخشب ويقام وراء جدار المسرح ممر مؤلف من طابقين الأرضي معد لانتظار الممثلين الذين ينفذون منه إلى منصة التمثيل بواسطة ثلاثة أبواب شاهقة وبابين جابنبيين يعلو كل منهما أربعة ألواح من الجهات الشرقية والغربية من هذا القسم وينفذ إلى كل لوح بواسطة درج خلفي يسمح بالوصول إلى المماشي الخلفية والقسم الأوسط من المدرج أيضاً وتدلنا البقايا الموجودة في مكانها على أن الألواح كانت مزينة بأشكال ورسوم مطلية بالألوان على جدرانها الداخلية وأن واجهة المسرح كانت مكسوة بألواح رخامية تغطي الواجهة بكاملها وفوق كل مدخل من البابين المعدين لدخول العازفين أقيمت منصة لجلوس لجنة التحكيم . ومن المعروف أن العرب الأنباط كان يقيمون أعيادًا مرة كل أربع سنوات ضمن أطار من العبادات.
المراجع: موقع مدينة بصرى
اختيارات الصور والتنسيق
د.اعتدال معروف القاق
د. نزار حسيب القاق
Bosra: le superbe theatre