كلمة النائب السابق الدكتور بيار دكّاش في احتفال مئوية سعاده الأولى

أيّها الحفل الكريم،

إنّ الأوّل من آذار في ذكرى مولد سعاده، الّذي نحتفل به كلّ سنة يكتسب هذا العام، معنًى مميّزًا، حيث أنّه يصادف موعد المئوية الأولى لمولد الزعيم في الشوير- هذه البقعة الجبلية الرائعة من أرض الوطن الحبيب لبنان الّذي أُعطي أعمدة النار منائر المجد من قدموس إلى سعيد عقل إلى أنطون سعاده، والّذي شاء القدر أن تكون مسقط رأسه الّذي يؤمّه الكثير من المؤمنين برسالته الّتي انطلقت مبشّرة بالعقيدة القومية الاجتماعية وانتشرت في الوطن الأمّ وفي دنيا الاغتراب مستقطبة بفلسفتها نخبة من رجال الفكر والعديد من المواطنين الحيارى الضائعين بين الانتماء والهوّية والتعدّدية الحضارية النابعة من عمق تراثنا وصفاء محتدنا وأصالة ثقافتنا بين الإملاءات المفروضة والمستوردة والبدع الدخيلة المتستّرة بأثواب مخملية ناعمة الملمس كالحيّة الرقطاء وفي أنيابها السمّ الزعاف القاتل لأيّ تقدّم وتغيير.

لقد استهوتهم هذه العقيدة الجديدة لأنّها أسقطت الغشاوة عن عيونهم وجاءت تعظّم دور الأمّة، وتؤكّد على أنّ قلبها لبنان، مبدّدة بذلك ما يُقال وما يُشاع وما ترسّب في عقول بعضهم من فهمٍ خاطئ لها.

لقد جاء في البيان الأوّل للزعيم إلى الشعب اللبناني تاريخ 6 آذار 1947:

«… بعد أن صرّحت أنّ الملأ يشهد أنّ جميع الجموع القومية الاجتماعية في لبنان ومن خارجه تعترف بكيانك وتحترمه ولا يعقل أن أكون أنا ابن لبنان خارج هذا الاعتراف..

«فما أنا إلّا لبناني من صميمك يريد تحويل كيانك إلى معقل للنبوغ ولتطوير المحيط حولك في اتّجاه موافق لتطوّرك متجانس مع أهدافك…».

«… هو (الكيان اللبناني) دائرة ضمان لينطلق الفكر منها…» كما جاء في خطاب الثاني من آذار 1947.

وإذا استعرضنا مراحل نشوء هذه العقيدة والأسس والقواعد الّتي ارتكزت عليها، وسبرنا غور الأسباب الّتي دعت إلى صياغتها واعتمادها، واستقصينا في أعماق الوجدان الحقائق المكنونة والظاهرة عن الآلام الّتي أحيطت بها والعذابات الّتي رافقت مخاضها العسير، وسألنا عن أهدافها الّتي كانت سرّية في البدء، لأدركنا عظمة واضعها لأنّها حصيلة عبقريته المميّزة، وإنتاج فكره الثاقب وإبداع علمه الجمّ الوسيع الشامل.

أيّها الزعيم،

إنّ مسيرة حياتك الشائكة وقد تعرّضت إلى صدمات نفسية عديدة في صغرك والظلم بفقدان والدتك وغياب والدك في الأرجنتين وتحمّلك مسؤولية أخوتك في ظروف معيشية صعبة بالإضافة إلى ما رأيت بأمّ العين من ويلات الشعب في حرب أفقرته وأذلّته، فبدلًا من أن تُضعفك وتصيبك بعقدة النقص ولّدت عندك التحدّي العنيف، وشدّدت من عزيمتك، وبدأت مشاعر الألم تترك آثارها الإيجابية البانية في نفسك، وهيّأتك للاعتماد على الذات وبإباء وشمم.

وإنّي أخالك أيّها الخالد مردّدًا:

«أنا لا أريد أن أرتفع ارتفاع السرو إذا كانت اليد الّتي ترفعني غير يدي فإذا قدّر لي النجاح، فلن يكون الفضل في ذلك إلّا لي وحدي وإلّا فقد أعذرت في أمري».

وقد ظهرت بوادر هذه الشخصية الفذّة، وهو في العقد الأوّل من عمره، فرفض أن يرفع فوق رأسه علم الدولة المستعمرة يوم كان تلميذًا في مدرسة برمّانا العالية، فرمى بالعلم أرضًا بعد أن حمله لمدّة وجيزة في مهرجان تكريمي لممثّل جمال باشا السفّاح.

كما تساءل في العقد الثاني «ما الّذي جلب على شعبي هذا الويل؟» مفتّشًا عن الأسباب الّتي أرخت بظلالها على الشعب الّذي حاصره القهر وأحاق به الويل من كلّ جانب وتركه ممزّق عرى تواصله، وشرّده جائعًا مسلوب الإرادة طريح الاستكانة والتملّق والبؤس، لاحوقًا لا عزّة له وهو أعزّ الأعزّاء، ولا كرامة له وهو أكرم الكرماء.

رفض المفاضلة بين محتلّ وآخر، وأشاد بحقّ الشعب الطبيعي وبدوره الطليعي، وعظم قدراته وإرادته الحرّة في تقرير مصيره كما جاء على لسان المغفور له عمر الداعوق رئيس بلدية بيروت يومذاك.

وعرف أنّ لا مكان للضعفاء في عالم الأقوياء فبنى عقيدته على الإيمان المطلق ببني قومه تحميه القوّة المتفوّقة الرادعة، أي أن نكون أقوياء بأنفسنا لنتمكّن من تأدية رسالتنا، وأقوياء بنهضتنا القومية الرادعة إذ ليس لنا مؤهّلات الاستقلال وحسب بل مؤهّلات التفوّق أيضًا.

أيّها الحفل الكريم،

أنا لا أدّعي أنّ باستطاعتي في هذا المقام الكريم وبالوقت المحدّد المُعطى لي أن أفيَ الزعيم حقّه فأشرح سيرته، وأن ألمّ بمختلف جوانب عقيدته فأكتفي بومضات سريعة تلقي بعض الأضواء عليها وتحفز الباحثين في مختلف الاختصاصات الاجتماعية لإشباعها تمحيصًا ودرسًا، وذلك من باب الفضول وتقصّي الحقائق وهي ميزة العلماء.

هاله الواقع الأليم المخيف الّذي كان الشعب في الوحدة الجغرافية السورية يتخبّط فيه تحت نير الاستعمار التركي أوّلًا، والاحتلال والوصاية والانتداب الغربي ثانيًا، وذلك قبل تقسيمه وقبل ولادة دولتي سورية ولبنان فأسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي لنشر الوعي والمعرفة وكشف الحقيقة وتحكيم العقل.

فكتب وحاضر وأصدر البيانات، وحاور وألقى الخطب، وقاد المظاهرات ولوحق واحتُجز وأُهين وسُجن وأُجبر على الرحيل، ومُنع من حقّ العودة.

وتفنّنوا بأساليب تعذيبه نفسيًا وجسديًا وأذاقوه الأمرّين، فبقي صامدًا كأنّه قُدّ من صخر، صابرًا ينافس أيّوب الصدّيق، مناضلًا متحدّيًا شامخ الرأس ثائرًا حتّى الموت، كالنسور في مقاومة العاصفة، ولسان حاله يقول: في العاصفة تموت، هكذا النسور تموت، جبين مشرّع للرياح يضرب القمّة بالقمّة، فإذا القمّة تراب فتيت وإذا سورية بأسرها وبقلبها لبنان ملعب واحد لنسر واحد.

لم يُرهبه قمعٌ، ولا أذلّه سجنٌ، ولا أخافه حُكمٌ إذ قال مرحّبًا:

«… فماذا يضيرني الموت بعد أن انطلقت الحركة ولم يعد لانتصارها من مردّ؟ كان يزعجني أن أموت قبل إطلاق هذه الحركة – حركة بعث الأمّة».

لقد سما في الارتقاء وبانت له الأمور على حقيقتها وفي مختلف أبعادها في نشوة الرؤيا.

وبات الزمن منبسطًا أمامه منقشعًا كلوحة بماضيه وحاضره ومستقبله.

وهكذا عرف الماضي، وعاش حاضره، وقرأ المستقبل، وحذّر من المنتظر والمتوقّع، ودعا إلى الوحدة القومية الاقتصادية الاجتماعية وليس إلى وحدة سياسية اعتباطية.

فسبقنا أوروبّا الحديثة نظريًا وسبقتنا بالتطبيق فأنقذت نفسها وأصبحت قوّة مُهابة، وبقينا نحن نتخبّط في لجج خلافاتنا متوّجة بجهل قياداتنا وفقدان حسّنا الوطني – وتمسّكنا بالشعارات الزائفة وبأنظمتنا المتخلّفة الباقية على بدائيتها وجهلها.

إنّ العقيدة تُدخلنا في صميم رسالته إذ شاء أن يمجّد أمّته، وأن يُبرز كفاءاتها وقدراتها، وأن يحفز أبناءها ويدعوهم لمعرفة ذواتهم ونعيم ما يذخرون به من قوّة قائلًا: «إنّ فيكم قوّة لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ».

وجعل لمبادرته شرطًا واحدًا هو الجواب الحرّ المملوء عزّة وافتخارًا وهو النعمة، قائلًا إنّ الحرّية لا تُحلّ إلّا بالحرّية وإنّ لبنان يحيا بالحرّية ويندثر بالعبودية. فمن له أذنان سامعتان فليسمع.

ولكنّ الإنسان المسحوق والواقع تحت نير الاستعمار والمكتفي بالتبعية قابل هذه النعمة بالرفض فوقع في شِباك المستعمرين المليئة بالمغريات والوعود البرّاقة – الزائفة.

وحملت الأمّة تبعة هذا الرفض ولم تعد مؤهّلة لأنّ تحقّق ما صمّم لها المعلّم من تدبير.

واليوم بعد المحن الّتي مررنا بها والحروب العبثية الّتي مزّقتنا شيعًا في لبنان، وبعد المآسي الّتي تعرّض لها عالمنا العربي وعالم حبيبة المعلّم وحلمه الكبير، لحقبة طويلة وتمكّن الاستعمار بأشكاله المتنوّعة والمختلفة من شلّ قدراتنا والإمساك بقرارنا وسلبنا حقّنا في تقرير مصيرنا وإجبارنا على الخضوع إلى الإملاءات والرضوخ إلى ما يُرسم لنا، وبعد فقداننا كلّ عزّة وكرامة، والعنفوان هذه الصفات الضامنة والمرادفة لكرامة الإنسان، أجل بعد كلّ هؤلاء يقف من حولهم المخلصون عاجزين عن أيّ تغيير بعد أن غُيّبوا تأمينًا لمصالح بعضهم وما أكثرها.

وبعد أن وقع لبنان واللبنانيون في العديد من الأزمات المستفحلة الّتي ألخّصها بثلاث:

  1. أزمة سياسية مستشرية
  2. أزمة اقتصادية خانقة
  3. أزمة أخلاقية متصاعدة

وبعد أن عجز الحكم عن إحقاق الوفاق لعلّة مستعصية فيه، أو استجابة لتحذير مفروض، وبعد أن تنكّر لمعظم بنود الطائف بغضّ النظر عمّن قبله أو رفضه كلّيًا أم جزئيًا – الّذي أصبح دستور البلاد وبه يحكمون.

وبعد أن احتُلّ عالمنا العربي المنكوب وارتجّت الأنظمة فيه وأصبحت مهدّدة لا بالتصدّع بل بالسقوط.

أرى من الواجب أن نُعيد النظر بكلّ الطروحات وأن نقدّم الحلول فنقيّم الغثّ منها والثمين علّنا نجد ما يساعد على الحلّ المنشود وينقذنا من هذه المآسي ومن هذه الانقسامات، مردّدًا كلّ بيت ينقسم على ذاته يخرب.

فنبدأ في لبنان بتطبيق الدستور ونحن حماته في: لقاء الوثيقة والدستور.

ولا ضير من أن نطرح العقيدة على الدرس والمناقشة كمشروع حلّ أوّل لعالمنا العربي بين كلّ المشاريع والطروحات بعد أن سقطت كلّ الهواجس والمخاوف وتوضّحت الصورة باحترام الكيانات والسيادة فيها.

علّنا نعيّد في الأوّل من آذار المقبل عيد الانتصار الحقيقي بدءًا بذواتنا من أجل الأمّة جمعاء، وخصوصًا بقلبها لبنان – لبنان الرسالة.

ونكون نموذجًا للسلام العالمي الحقيقي.

عشتم وعاش لبنان

ألقيت هذه الكلمة في: قاعة مسرح شاتو تريانون – الزلقا، أوتستراد بيروت – طرابلس ، وذلك نهار الأحد الواقع فيه 29 شباط 2004.

”نشرة عمدة الإذاعة“، العدد 2/72، كانون الثاني – شباط 2004، ص 12-14.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *