ما تقولونه في اليهود

كثر في الآونة الأخيرة، وبالأخصّ عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما يشبه التبنّي لبعض المواقف التي اعتبرها البعض حدثًا ”تحوليًا عظيمًا“ كمثل وقوف حاخام متديِّن على علم الدولة اليهودية الغاصبة، أو تبادل البيانات التي تحمل أفكارًا تتناول المسألة اليهودية، وتقترح أساليب عمل معها، على اعتبارها واقعًا محليًّا بطابع مواجهة عالمية أو ما شابه.
من الجدير، مع مثل هذا الخلط المنتشر، دعوة أبناء شعبنا الأحباء إلى اليقظة وتوسيع الآفاق والنظر خلف ما يمكن أن يختبىء في طيات المشاهد المعمّمة، وأية خديعة قد تكمن فيها، وماذا يمكن أن يتربّص بمصالح حياتهم أو يؤسّس لحرف انتباههم عبر اعتبار المسألة الفلسطينية صنيعًا سياسيًّا لا أساس دينيًا له بذريعة أن حاخامًا هنا أو مجموعة صغيرة هناك – وإذا ما سلمًنا جدلًا بصُدقيتها– كافية لقلب كلّ تراكمات المشهد القائم أمام أعيننا، وبجعل هذه الجريمة الإنسانية الجاثية على صدرنا الجنوبي قد نشأت وتطوّرت وتخططت بمجرّد توفر رغبات فردية متفرقة وبمعزل عن إيمان ديني عميق متأصّل في أدبيات هذه الهجرة الثقيلة القاتلة.

صحيح أنّ اعتراضًا حادًا جاء من شخصيات يهودية بارزة كانت قد رافقت التأسيس لإنشاء ما سمّي بـ”دولة إسرائيل“، وكان أهمّ أسباب اعتراضها – والذي نؤيدها في صحة تقديراتها– أنّ إنشاء مثل تلك الدولة لا بدّ أن يجعل من هذا التعدّي المحتشد فيها مشروعًا لمذبحة شاملة لسكانها، قد تقوم بأية لحظة، وكان بذلك سببهم الوجيه المؤدي لرفض إقامتها.
كذلك فليس من المستبعد أن نجد بين اليهود أفرادًا تضيق عليهم المعتقدات المتحجرة الغريبة عن الواقع الخلّاق المتوقّد في النفس البشرية، فيصبح لزامًا عليها الخروج من دوائرها المغلقة تلك، طلبًا في تحرير ذاتها الإنسانية من معطلات الإبداع.
وهنا بالطبع لا يمكن اعتماد حالات كتلك للخروج باستنتاجات بعيدة عن واقع العلاقة التي تقرّرت مع أبناء شعبنا، وقبل أي شيء، داخل توراة اليهود وبالسلوكيات المؤسَّسة على أسفاره. أّما البناء على تجارب فردية متفرقة فهو بناء لا مكان موضوعيًّا له، فمثل تلك الحالات لطالما عانت نبذ اليهود أنفسهم لها واعتبارها خارجة على شرائع دينهم وتعاليمه، كما حصل مع الفيلسوف اليهودي الشهير سبينوزا، ذلك الفيلسوف المعروف بانتمائه إلى خط الفلسفة الرواقية (نسبة للفيلسوف السوري زينون الرواقي) والذي استحقّ، بسبب أفكاره المتولدة من تأثير هذا الانتماء، لعنةَ رجال الدين اليهود، حيث وصلت حدّ اعتبار من يقترب من قبره أربعة أذرعٍ هو بحكم الذي أمسك به رجسٌ وأصابته النجاسة.
ولعلّ أغرب ما وصل إليه الخلط والتخبّط مؤخرًا في بيان ناشطين، يعتبرون أنفسهم متنوّرين، هو دعوة البعض العلنية إلى ”إقامة دولة مدنية في فلسطين“، وكأن التجارب العينية المختبرة لعشرات السنين التي خلت لم تكفِ بعد لدفعنا نحو القليل من التمعّن فيما استشرفه سعادة، وقبل عشرات السنين من حدوثها.
فسعادة تنبَّه ونبَّه باكرًا، قائلًا: «إنّ في سورية عناصر وهجرات كبيرة متجانسة مع المزيج السوري الأصلي، يمكن أن تهضمها الأمّة إذا مرّ عليها الزمن الكافي لذلك، ويمكن أن تذوب فيها وتزول عصبياتها الخاصة. وفيها هجرة كبيرة لا يمكن بوجه من الوجوه أن تتفق مع مبدأ القومية السورية هي الهجرة اليهودية. إنها هجرة خطرة لا يمكن أن تُهضم لأنها هجرة شعب اختلط مع شعوب كثيرة فهو خليط متنافر خطر وله عقائد غريبة جامدة وأهدافه تتضارب مع حقيقة الأمّة السورية وحقوقها وسيادتها ومع المثل العليا السورية تضاربًا جوهريًّا». (من شرح المبدأ الرابع من مبادىء الحزب الأساسية)
وبدلًا من ربط الاستشراف بالتجربة والبرهان الحسي عليها والذهاب إلى تعرية هذا الشذوذ الفكري الديني الذي اغتصب فلسطين، ثم إسقاط حججه وتبيان فساده الإنساني؛ فبدلًا من تضييق آفاق الخديعة تلك، يقفز البعض إلى البحث عن حلول نجاة ينقذها من التأزم العالمي الواقعة فيه، وليس العكس كما يتصوّر البعض، كما وليس من المبالغة القول إنّ مواقفَ عالميةً كثيرة باتت تسبق غالبية السياسيين السوريين في مواجهة المشروع اليهودي في هذه الأمّة في حين أن غالبية المؤسسات السورية الرسمية وغير الرسمية نائمة على معتقدات خرابها نومة أهل الكهف الطويلة.
إننا لا نعلم بالضبط ما إذا كانت الدعوة إلى الوحدة الاجتماعية مع اليهود تحت سقف مدني قد أضاعت القدرة على التفريق بين خبث المرامي اليهودية وبين بساطة وطيب الأصول المُحبة للنفسية السورية، أم أنها كانت بقصد إغواء الوكالات الممثلة للشعوب اليهودية – ولا نقول الشعب اليهودي– من خلال إعلان قبولها حتى بما هو أبعد من السلام وعبر تقديم صاحب هذا الطرح نفسه كبارع في ابتكار الحلول للعلاقة المستحيلة أصلًا مع تلك الشعوب، وتحت عنوان ”عالمية مواجهتها“، يذهب هذا الطارح أبعد مما تستطيع هذه الوكالات نفسها تحمله إزاء صلف وتحجر الجماعات التي تمثلها، وأعقاب إعلانها الجهوري المدوّي عن ”يهودية الدولة الإسرائيلية“ والتي نؤكد لمتبنّي تلك الأفكار أن تلك الدولة القائمة فقط على غرائز الاغتصاب والإبادة لن تقرأ في ”عجماوية الغوييم“ (أي البهائم بحسب النص التوراتي) ما هو أبعد من لهاث التسول على أبواب ”المناصب السياسية المغرية“…
أما نحن القوميين الاجتماعيين فعزاؤنا وألمنا، في آن واحد، هو إدراكنا المسبق أن «بهذه الأخلاط لم يمكن أن تسير الأمّة السورية إلى أي انتصار. والذين يظنون أنهم يمكنهم أن يحققوا أي انتصار من غير طريق الحركة القومية الاجتماعية هم ضالّون ومضلّلون. لا يمكن أبدًا أن نسير الى أي انتصار بدون الوحدة في العقيدة والأهداف والخطط والكيان. » (سعادة: من خطاب في الطلبة القوميين الاجتماعيين، في 16 أيار 1949).

المركز في 20 أيار 2021

عميد الثقافة والفنون الجميلة
الرفيق عارف مهنا

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *