الوطنُ السوريّ هو البيئةُ الطبيعيّةُ الّتي نشأت فيها الأمّةُ السوريّة. وهي ذاتُ حدودٍ جغرافيّةٍ تُميّزُها عن سواها، تمتدُّ من جبالِ طوروسَ في الشّمالِ الغربيّ وجبالِ البُخْتياري في الشّمالِ الشرقيّ إلى قناةِ السُّوَيْسِ والبحرِ الأحمرِ في الجنوبِ شاملةً شبهَ جزيرةِ سيناءَ وخليجَ العقبة، ومن البحرِ السوريّ في الغربِ شاملةً جزيرةَ قُبْرُص، إِلى قوسِ الصّحراءِ العربيّةِ وخليجِ العَجَمِ في الشّرْق. ويُعبَّرُ عنها بلفظٍ عامّ: الهلالُ السوريّ الخصيبُ ونجمتُه جزيرةُ قُبْرُص.
هذه هي حدودُ هذه البيئةِ الطبيعيّة، الّتي حَضَنَتِ العناصرَ الجنوبية والشمالية المتجانسة الّتي نزلتْ واستقرّتْ فيها واتّخذتْها موطنًا لها تدورُ فيه حياتُها، ومكّنتْها من التصادمِ ثمّ من الامتزاجِ والاتّحادِ وتكوينِ هذه الشخصيّةِ الواضحة، القويّة، الّتي هي الشخصيّةُ السوريّة، وحَبَتْها بمقوّماتِ البقاءِ في تنازعِ الحياة. وكما تنبّهَ الكلدانُ والآشوريون إلى وَحدة هذه البلاد، من الداخل، وَسَعَوا لتوحيدِها سياسيًّا، لعنايتِهم بالدولةِ البرّية، وكما عَرفَ هذه الحقيقةَ كلُّ شعوبِ هذه البيئةِ واهتَمّوا بالمحالفاتِ وإنشاءِ نوعٍ من اللامركزيةِ في بعضِ الأزمنة، كذلك تنبّهَ العربُ في دقّةِ ملاحظتِهم السطحيّةِ إلى وَحدتها الجغرافيّةِ الطبيعيّةِ فسمَّوها ”الهلال الخصيب“.
إنّ سرَّ بقاءَ سورية وَحدةً خاصّةً وأمّةً ممتازةً، مع كلّ ما مرَّ عليها من غزواتٍ من الجنوبِ والشمالِ والشرقِ والغرب، هو في هذه الوَحدةِ الجغرافيّةِ البديعةِ وهذه البيئةِ الطبيعيّةِ المتنوّعةِ الممكناتِ من سهولٍ وجبالٍ وأوديةٍ وبحرٍ وساحل، هذا الوطنُ الممتازُ لهذه الأمّةِ الممتازة. وهي هذه الوَحدةُ الجغرافيّة، الّتي جعلتْ سوريةَ وَحدةً سياسيّةً، حتّى في الأزمنةِ الغابرة، حينَ كانتْ هذه البلادُ مُقسَّمةً إلى كنعانيين وآراميين وحثّيين وأموريين وآشوريين وكلدانيين. وقد ظهرتْ هذه الوَحدةُ السياسيّةُ في عقدِ المحالفاتِ أثناءَ أخطارِ الحملاتِ المِصريةِ وغيرِها، وفي الحملاتِ السوريّةِ على مِصرَ من أيّامِ ”الهكسوس“، كما ظهرتْ مُكتملَةً نهائيًّا، فيما بعدُ، في تكوينِ الدولةِ السوريّةِ في العهدِ السلوقيّ، الّتي صارتْ أمبراطوريةً قويّةً بسطتْ سلطتَها على آسيةَ الصغرى وامتدّتْ فتوحاتُها إلى الهند.
إنّ فَقْدَ الأمّةِ السوريّةِ سيادتَها على نفسِها ووطنِها، بعاملِ الفتوحاتِ الخارجيّةِ الكبرى، وإخضاعَ البلادِ السوريّةِ لسياداتٍ خارجيّةٍ عرّضَ البلادَ إلى تجزئَةٍ وإطلاقِ تسمياتٍ سياسيّةٍ متجزّئةٍ عليها. ففي العهدِ البيزنطيّ- الفارسيّ بسطتِ الدولةُ البيزنطيةُ سيادتَها على سورية الغربيةِ كلّها واقتصرَ اسمُ سورية على هذا القسم، وبسطتِ الدولةُ الفارسيةُ سيادتَها على سورية الشرقيّةِ (ما بينَ النهرينِ أو أراضي آشور وبابلَ القديمةِ) وأطلقتْ عليها اسمَ ”إيراه“ الّذي عرّبَه العربُ فصارَ العراق. وبعدَ الحربِ العالميةِ الأولى (1914-1918) بُسطتِ السيادةُ الأجنبيّةُ المُثَنّاةُ (بريطانية وفرنسة) على سورية الطبيعيّةِ وجُزّئتْ حسبَ المصالحِ والأغراضِ السياسيّةِ وحصلتِ التسمياتُ: فلسطين، شرق الأردنّ، لبنان، سورية (الشام)، كيليكية، العراق. فتقلّصَ اسمُ سورية إلى منطقةِ الشامِ المحدودة. وكانتْ قد أُخرجَتْ جزيرةُ قبرص من حدودِ سورية مع أنّها قطعةٌ من أرضِها في الماء.
إنّ سورية الطبيعيّةَ تشملُ جميعَ هذه المناطق الّتي تُكوّنُ وَحدةً جغرافيّةً- زراعيةً- اقتصاديّةً- إستراتيجيّةً لا يُمكنُ قيامُ قضيّتِها القوميّةِ الاجتماعيّةِ بدونِ اكتمالِها.
أشرتُ في شرح المبدأِ الرابع إلى تضاربِ التواريخِ الأجنبيّةِ في تحديدِ سورية ومتابعةِ المؤلّفين والكاتبين في التاريخِ من السوريّين التواريخَ الأجنبيّةَ في تعاريفِها، واعتمادِهم بالأكثرِ التحديدَ الّذي عُرفَ في العهدِ البيزنطيّ- الفارسيّ، الّذي جعلَ حدودَ سورية الشمالية الشرقيّة نهرَ الفراتِ وسمَّى القسمَ الشرقيّ، ما بين النهرين، ”إيراه“.
وإنّ اقتسامَ البيزنطيينَ والفرسِ سوريةَ في ما بينَهم، وإقامةَ الحواجز السياسية بينَ سورية الشرقيّةِ وسورية الغربيةِ عرقلَ كثيرًا، وإلى مدّةٍ طويلة، النموَّ القوميّ ودورةَ الحياةِ الاجتماعيّةَ والاقتصاديّةَ، ونتجَ عن ذلك إبهامٌ في حقيقةِ حدودِ سورية.
وزادَ الطينَ بلَّةً هجومُ الصحراءِ ودخولُها في تجويفِ الهلالِ السوريّ الخصيبِ بعاملِ تناقصِ السكان وتقلّصِ العمران بسببِ الحروبِ والغزوات، وبعاملِ قَطعِ الغاباتِ وتجريدِ مناطقَ واسعةٍ جدًّا من البلادِ من حَرَجاتها. وإنّ عدمَ وجودِ دراساتٍ سابقة، موثوقةٍ في أسبابِ زيادةِ الجفافِ في تجويفِ الهلالِ السوريّ الخصيبِ وتَناقُصِ العمرانِ فيه، ساعَدَ على اعتبارِ التمدّدِ الصحراويّ حالةً طبيعيّةً دائمةً، الأمرُ الّذي أثبتَ بطلانَهُ تحقيقي الأخير.
إنّ تحقيقي أثبتَ وَحدةَ البلادِ وأعطى التعليلَ الصحيحَ لوضعِها وأسبابِ تجزئتِها الخارجةِ عن حقيقتِها. فثبَّتُّ منطقةَ ما بين النهرينِ ضمنَ الحدودِ السوريّةِ وأصلحتُ التعبيرَ الأوّلَ ”ضفاف دجلة“ الّذي كنتُ اعتمدتُه، بجعلِه أوضحَ وأكملَ بإعطائِه مدى معنى منطقةِ ما بين النهرين الّتي تصلُ حدودُها إلى جبالِ البُختياريّ، إلى الجبالِ الّتي تعيّنُ الحدودَ الطبيعيّةَ بين سورية الشرقيّة وإيران.
أمّا جزيرةُ قبرصَ فقد أحتلّها الفينيقيون من قديمِ الزمان، وصارتْ من مراكزِهم الهامّة، وفيها وُلدَ الفيلسوفُ السوريّ الفينيقيّ زينونُ صاحبُ المدرسةِ الرواقية.
إنّ سورية الوطنَ هي عنصرٌ أساسيٌّ في القوميّةِ السوريّةِ وكلُّ سوريّ قوميّ يجبُ أنْ يعرفَ حدودَ وطنِه ويُبقيَ صورةَ بلادِه الجميلةَ ماثلةً لعينيه، ليَجدُرَ به أن يكونَ سوريًّا قوميًّا صحيحًا.
ولكي يقدرَ السوريّ القوميّ الاجتماعيّ أنْ يحفظَ حقوقَه وحقوقَ ذُرّيتِه في هذا الوطنِ الجميل، يجبُ عليهِ أنْ يفهمَ جيّدًا وَحدةَ أمّتِه، ووَحدةَ حقوقِها، ووَحدةِ الوطن، وعدمَ قابليةِ تجزئتِه.
قلتُ في كتابي الأوّل من ”نشوء الأمم“ إنّ فاعليةَ الأمّةِ وحيويّتَها تُعدّلُ حدودَها الطبيعيّة، فإذا كانتِ الأمّةُ قويّةً ناميةً تغلّبتْ على الحدودِ وامتدّتْ وَراءَها فتُوسّعُ حدودَها، وإذا كانتِ الأمّةُ ضعيفةً ذاويةً تقلّصتْ عن حدودِها الطبيعيّة. وبعد انهيارِ الدولِ السوريّةِ العظمى طمتْ على الأمّةِ السوريّةِ موجَةُ ضعفٍ وتقلُّصٍ، فتراجعتْ عن حدودِها، وخسِرتْ قبرصَ لليونان ومَن أتى بعدَهم، وخسِرتْ شبهَ جزيرةِ سيناءَ لمِصرَ، وكيليكيةَ للأتراك، وجزّأتْها الدولُ الّتي غَزَتْها واحتلّتْ وَطنَها أو بعضَ أجزائِه.
إنّ النهضةَ القوميّةَ الاجتماعيّةَ تُعبّرُ عن عودةِ فاعليةِ الأمّةِ السوريّةِ وحيويّتِها إليها لتعودَ إلى القوّةِ والنموّ واستعادةِ ما خسِرتْهُ من بيئتِها الطبيعيّة.