كلمة حضرة عميد الاقتصاد الرفيق هشام شويري في الندوة التي أقامتها جمعية لبنان الموحد في مجمع الشوف السياحي ـ بعقلين تحت عنوان “نحو استراتيجية اقتصادية اجتماعية جديدة للبنان” نهار الأحد 15 تشرين الثاني 2009.
حضرة رئيس جمعيّة لبنان الموحّد، السّادة المحاضرين، أيّها الحفل الكريم
منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانية وحتّى العام 1990، كانت النظم الاقتصاديّة بشكل عام، إمّا رسمالية أو اشتراكيّة-شيوعيّة. شمت العالم الرسمالي بالنظام الشيوعي طيلة ثمانية عشر عامًّا، منذ 1990 وحتّى 2008. وعند سقوط المنظومة الشيوعيّة الأكبر، كانت الأنظمة الرسماليّة بالمرصاد تحتفل “بانتصار” أيديولوجيتها، وتسوِّق نفسها كبديل وحيد للعصر القادم نحو نظام جديد للأفضل. وروّجت عبر جميع الوسائل، حتّى التعليميّة منها، مقولات: القرية الكونيّة، العولمة بكل أشكالها المتعدّدة، زوال الحدود، نهاية مفهوم الدولة-الأمّة، ومبدأ “صراع الحضارات” للوصول إلى غايتها الاستعماريّة بوجه جديد، يتلاءم مع الوضع العالمي الجديد المتمثّل بالقطب الواحد “الولايات المتّحدة الأمريكانيّة”. فقام هذا القطب الواحد، بتغطية من الأمم المتّحدة أو بدونها، بتوسيع أمبراطوريته دون أي رادع أخلاقي للسيطرة على مصادر الطاقة والعالم. فكانت حرب الكويت، ثم حروب البلقان فأفغانستان والعراق.
خلال الثمانية عشر عامًا الأخيرة، فرضت أميركانية العولمة فرضًا، رغم كلّ دعوات الاحتجاج التي قامت خاصّة في أوروبا. وربطت اقتصاديات الدول الأوروبيّة والخليجيّة وشرق آسيا بأسواقها الماليّة. وفي العام 2008، تهاوت أحجار الدومينو ابتداءً من أسواقها الماليّة لتطال كل الأسواق الأخرى. فكان الكساد الثاني، ليتبيّن ان القطب الواحد أكبر دولة مديونة في تاريخ البشرية: دينها العام نهاية 2008 بلغ 52.9 تريليون دولار.
الولايات المتّحدِة سجّلت عجزًا قيمته 827 مليار دولار من شباط 2007 حتّى شباط 2008 في حين سجّلت اليابان فائضًا قيمته 105 مليار دولار وألمانيا فائضًا بقيمة 272 مليار دولار، خلال الفترة المذكورة.
في عام 2009، سيلامس العجز في الولايات المتّحدة 1 تريليون دولار.
كان حجم الدين الإجمالي في الاقتصاد الأميركاني يقدّر بنحو 41 تريليون دولار في نهاية 2007، أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج الوطني. وللمعلومات، وليس للمقارنة، في لبنان كانت نسبة الدين 1.6 من الناتج الوطني في العام 2008، وهي الآن 1.5.
إعلان إفلاس أكثر من مئة مصرف في الولايات المتّحدة الأميركانية حتى الآن خلال هذا العام 2009، علمًا أنّ 25 مصرفًا أغلق أبوابه خلال العام 2008، و7 مصارف فقط في العام 2007.
والطريف في نِسب هذه الاحصاءات هي أن 80% (42 تريليون دولار) من الدين العام للولايات المتّحدة تراكم منذ العام 1990؛ تاريخ تفكّك الاتّحاد السوفياتي.
ألغت أميركانية في العام 1998 قانون غلاس ستيغل الذي وضع موضع التنفيذ عام 1933 لضبط السياسات الاقتصاديّة والماليّة بعد الكساد الأوّل عام 1929، ورفضت الالتزام بمعايير بازل 2 عام 2004 لتحرِّر القطاع المالي تحريرًا مطلقًا من أي دور رقابي. أمّا بعد وقوع الأزمة، فهذا بعض ما قيل:
رئيس الوزراء البريطاني، غوردن براون: “أضحت الأسواق الحرّة تُعبد كإله، غير أنّ ذلك الإله كان خاطئًا”.
الرئيس السابق للاحتياطي الفدرالي الأميركاني،ألان غرينسبان: “مبدأ التأميم الجزئي لإنعاش رساميل المصارف هو ما يجب فعله كلّ مئة عام”.
وزير الاقتصاد والمال الإيطالي جوليو تريمونتي: “غرينسبان سبب أذىً بالولايات المتّحدة وسمعتها ربّما أكثر من أسامة بن لادن”
أستاذ الاقتصاد في جامعة نيويورك، نورييل روبيني: “قد تصل خسائر القطاع المالي في الولايات المتّحدة إلى 3.6 تريليون دولار ما يجعل هذا النظام مفلسًا عمليًّا”.
نُظر إلى الليبيراليّة كبديل صالح عن الشيوعيّة. فسقطت الليبيراليّة من غير أن تكون بمواجهة مع قطب ثانٍ. سقطت لأنّها مبدأ فاسد، أساسه الفرد وجشعه، دون أي اعتبار لمصلحة المجتمع أو المواطن الآخر. جنت الطبقة الحاكمة أرباحَ الأسواق وتعبَ المواطنين. وعندما وقعت الواقعة، أصبح دور الدولة مطلوبًا من قبل من حارب بشراسة أي تدخّل من شأنه تنظيم الاقتصاد وحماية المواطنين. يريدون للدولة دور حماية أصحاب الرساميل بعد أن يقطفوا ثمار كذبهم، لا دور حماية المواطنين من احتكاراتهم وسوء إدارتهم. وهذا وجه جديد للإقطاع.
إنّ التزاوج القسريّ بين الرسماليّة والشيوعيّة لا يمكن أن يبني نظامًا جديدًا له صفة الديمومة. يمكنه فقط أن يولّد استقرارًا مؤقتًا للأسواق لا أكثر. العالم اليوم بحاجة إلى فكر جديد، إلى أساس جديد للبناء الاقتصادي والاجتماعي. ولبنان بأمسّ الحاجة لنظام اقتصادي جديد ينقذه من وضعه الصعب.
حاول عدد غير قليل من الكُتّاب الاستخفاف بما كتبه سعاده عن علم الاقتصاد. وجزم بعضهم أنّ سعاده لم يأتِ بجديدٍ، فلا نظرة واضحة عن الاقتصاد القومي الاجتماعي؛ بل بعض الآراء المُتأثّرة بالنظام الاقتصادي الاشتراكي. غاب عن هؤلاء أنّ فلسفة سعاده عمادها الإنسان – المجتمع. ولذلك لا يمكن اعتبار النظرة القوميّة الاجتماعيّة للاقتصاد كنظرةٍ ما بين النظرتين المذكورتين، أو كحلٍ وسط بين قطبين، بل فلسفة جديدة بأُسسٍ ومقاييس مختلفة.
للحزب السوري القومي الاجتماعي غاية وثماني مبادئ أساسيّة وخمس مبادئ إصلاحيّة. جميعها تشكّل العقيدة. المبدأ الإصلاحي الرابع ينص على: “إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمّة والدولة”.
القاعدة التي يرسيها سعاده كأساس لتنظيم الاقتصاد هي مصلحة المجتمع. فالنظام الاقتصادي يجب أن يحقق الارتياح النفسي والمادي للأمّة.
أيّها الحفل الكريم
إنّ ما يهمّنا بالطبع هو تطبيق هذا المبدأ في بلادنا السوريّة لأن غايتنا هي إعادة الأمّة الى سابق حيويتها وقوّتها ورفع مستوى حياتها. فلنتعظ من تجارب غيرنا.
وضع سعاده لنا هنا الأساس وقواعد الانطلاق لاقتصاد سليم منذ العام 1932، تاريخ تأسيس الحزب. فلنشرّع ونسنّ القوانين التي تتوافق مع هذه القاعدة. وتلك القوانين هي التي يجب أن تتطوّر لسدّ حاجات المجتمع المتنامية باستمرار. وإذا أصبحت العولمة الاقتصاديّة أمرًا واقعًا، فذلك لا يلغي اختلاف المصالح بين الدول وإمكانيّة تضاربها مع بعض، واختلاف النظر حول كيفيّة التأقلم مع العولمة من قبل الأمم أو الدول. فعصر القوميّات لم ينتهِ بعد. لا بل أصبح أكثر وضوحًا من قبل.
فلنعمل لإلغاء الإقطاع بوجهيه. الأوّل بديهي وهو ممارسته من قبل الإقطاعي، والثاني قبولنا له عملاً بالمثل الشاثع: “الإيد يلي ما فيك تكسرها، بوسها وادعي عليها بالكسر”. ولننمِّ الإنتاج بجميع أنواعه المعروفة والمبتكرة.
عُرفت سورية باهراءات روما وبالهلال الخصيب، ونحن اليوم نستورد الحليب من العربة!
لنحفّز الصناعة عبر دعمها بالطاقة، والقروض الميسّرة كون سيولة المصارف مرتفعة، تخفيض الضرائب عليها، عقد اتّفاقات شراكة لتصريف الإنتاج؛ لا محاربة الصناعة الوطنيّة إرضاءً لدولة تدعم طرفًا لبنانيًا ضد آخر، بحجّة استكمال شروط الانضمام إلى منظّمة التجارة العالميّةWTO . فالبلاد المنضوية في المنظمة المذكورة تدعم صناعاتها. أمّا في لبنان، فخمسة آلاف مصنع أُغلقت أبوابها بين العام 1996 و2008. إزالة الحواجز الاقتصاديّة بين كافة الدول السوريّة ووضع تشاريع وقوانين للتكامل الاقتصادي على غرار مجلس التعاون الخليجي، الذي رفض إدخال العراق بين أعضائه فهو ليس من دول الخليج العربي، وعلى غرار السوق الأوروبيّة المشتركة التي قطعت شوطًا كبيرًا بعد أن حدّدت مصالح شعوبها. فهل نسير بعكس اتّجاه الناموس الطبيعي، وعكس التاريخ؟ لماذا مثلاً لا نستعيض عن الهجرة إلى أستراليا وأفريقيا وأميركانية بالانتقال إلى الشام والعراق والأردن؟ وقد بدأتْ بخجل عبر القطاع المصرفي. نأمل أن تتطوّر وتطال كافة القطاعات. فبالتكامل الاقتصادي في الدورة الاقتصاديّة الواحدة يتم تبادل الخبرات لسدّ حاجات المجتمع المادية منها والروحية، وتلك هي غاية الاقتصاد. ولبنان قليل الإمكانات الماددية نسبة لإمكانيّات أبنائه.
لننصف العمل، لا العمّال فحسب. فالعمل هو المجهود الإنساني في الإنتاج. وهو قيمة مجتمعيّة، لا فرديّة أو طبقيّة. العمل هو طاقة المجتمع المبذولة على إمكانيّات الأرض بواسطة الرسمال لحصول الإنتاج لسدّ حاجات الحياة الجيّدة المتنامية.
لنحوّل الرسمال الفردي إلى رسمال مجتمعي، يكون الفرد مؤتمنًا عليه، ليستثمره بما يضمن نمو الاقتصاد الوطني ويخدم مصلحة الأمّة والدولة. فهل يجوز مثلاً، وفي الوقت الذي يمرّ فيه لبنان بضيقة اقتصاديّة يستجدي المشاريع المنتجة من المستثمرين الأجانب، أن تقوم شركة “سوليدير” باستثمار مشروع “الزوراء” بكلفة 60 مليار دولار في إمارة عجمان؟ وفي ظلّ الأزمة العالميّة الراهنة التي طالت السوق الإماراتيّة، أمسى المشروع مهدّدًا بالتوقّف. ألم يكن الوطن أحق بهكذا استثمار مالي يؤمّن فرص عمل لأبناء الوطن وينعش التجّار وأصحاب الاختصاص، بالإضافة إلى المداخيل عبر الضرائب والسيّاح؟ الأمّة الناهضة لا يمكن أن تفكّر أبدًا بمسألة جنونيّة كإلغاء الرسمال. وفي غياب النظرة القوميّة الاجتماعيّة، لا يُلام الرسمالي لحماية رسماله من غدر الزمن أو ظلم الحاكم.
إنّ صيانة مصلحة الأمّة ببعدها الاجتماعي، والدولة ببعدها السياسي، تكفل الخير لجميع أبنائها دون استثناء، ودون أي نوع من أنواع التمييز.
نختم مداخلتنا بالقاعدة الأساس: “كلّ نظام يحتاج إلى الأخلاق، لا بل إنّ الأخلاق هي في صميم كلّ نظام يمكن أن يكتب له أن يبقى”. فبانعدام الأخلاق، عبثًا يبني البنّاؤون. والأخلاق هنا هي اعتبار مصلحة المجتمع، أهم من حياتنا. وشكرًا.
الشوف في 15 -11- 2009
عميد الاقتصاد
الرفيق هشام الشويري