المهاجرون وقضيتهم

وضعتِ الحربُ الكبرى أوزارَها وفتحَ العالمُ أجمعَ العينَ على أمور كثيرة لم تكن تخطر على بال لأنها قد عدّلت كثيرًا في النظم الاجتماعية والسياسية العامة وخرجت منها الدول بالغنم أو بالغرم لأنها اقتحمتها مسوقة بدافع واحد هو السيطرة على أكبر وأوسع كمية من مرافق الحياة وموارد العيش أو المحافظة على ما عندها من تلك المرافق والموارد، وأصاب شعبنا ما أصابه مما تذكُره الأمّة بألم. وكان السببَ الهامَّ في جرّ تلك الويلات الرقادُ الطويل أو ما كان أشبه بغيبوبة لا يعي معها الشعبُ ما يجري حوله من الأمور التي لها مساس مباشر بحياته ومصلحته.


وجاءت المعاهدات بعد الحرب طبعًا في صالح القوّة لا الحق، فأصاب شعبَنا أيضًا منها القسطُ الوافر لأنه كان من الشعوب التي وقعت تحت الوصاية.


وكانت معاهدة لوزان، وضعتِ المادة التي تعطي حق اختيار الجنسية للمهاجرين من البلدان التي كانت تؤلف الإمبراطورية العثمانية. وبالحقيقة فقد كان هذا الاختيار شيئًا لم يرضَ به شعبٌ قد فتح عيونه لمعرفة ما يترتب على النصوص والمعاهدات، فجاء الحق الإيجابي فيما يتعلق بجنسية مهاجرينا في جانب تركيا والوجهة السلبية كانت من نصيب السوريين الذين استخدمت حقوقهم الأساسية وسيلة للإرضاء. وقد أثيرت اليوم مسألة الجنسية من جديد، أثارتها دولتان، إحداهما تمثل مصالحها الخاصة وتقف في سبيل حياتها والثانية بالوصاية أيضًا. وقد عرف قراء النهضة ما كان من نتائج الاتفاق الجديد لتمديد مهلة اختيار الجنسية على الأساس نفسه الذي وُضِعت عليه المادّة المختصّة في معاهدة لوزان.


قامت الحكومتان الشامية واللبنانية بدعاوات كلامية لتشويق مهاجرينا لاعتناق الجنسية الأصلية فكانت هذه الدعاوات ناقصة لا ترتكز على أسس عملية فنية. فإن ما تعرفه الحكومتان عن مهاجرينا لا يمكنهما من معرفة مكامن الداء لتصبحا قادرتين على العمل التشويقي المثمر.


إن حنان المُهاجِر إلى أمّته ووطنه وشعبه لا يكفي لأن يترك الجنسية التي اعتنقها في البلاد التي يقطنها لأن المصلحة التي دفعته إلى هجرة البلاد والعوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تفاعلت جميعها في مدّة من الزمن حتى أرغمته على ترك بلاده لا تزال تتكون وتتفاعل حتى يومنا هذا، فتقذف بقافلات جديدة من شباب البلاد الذي يكوِّن عنصر القوّة والحياة فيها إلى ما وراء البحار.


إن هذه العوامل وتفاعلها لا يزول تأثيره ومفعوله بنشرة أو بخطاب موجّه إلى المهاجرين لأن المُهاجِر على أنواع. أهمّها واحد يحنّ إلى الوطن حنين الفاهم الذي يرقب الأمورَ وتطورّها، وواحد يجدُّ في سبيل العيش، تتناحره عاطفة الحنين إلى المنزل الأوّل مع الحاجة إلى حفظ كيانه الخاص فتتغلب المصلحة على العاطفة ويفضّل البقاء حيث هو.


وقد علمت الحكومتان من مصادر عدّة ما تركت مقاومتهما للنهضة القومية العاملة على إزالة تلك العوامل الأساسية التي تقذف بشباب البلاد إلى أحضان غريبة، من أثر سيء في أوساط المهاجرين. فقد كان البعض من المهاجرين يتذرّع بهذه المعاملة والمطاردة على إفهام الناس هناك أنّ الحالة في البلاد لا تبشِّر بما يتوق إليه المهاجرون من رفع في المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ذلك المستوى الذي قد اعتادوه في البلاد التي يقطنون.


فالنهضة القومية التي تعمل لوضع هذه العوامل الأساسية لكي تتفاعل لإنماء الفضائل ورفع مستوى الأمّة هي وحدها كفيلة بأن تعيد إلى أحضان الأمّة جميع المهاجرين لأنها عرفت كيف تشقّ طريق الحياة للأمّة، تلك الحياة التي من أجلها ترك أهلُنا الوطنَ والتي يرقب المهاجرون تمام فاعليتها.

*جريدة النهضة العدد 126 في 26 آذار 1938

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *