المهاجرة وتأثيرها الاقتصادي

عرضنا في أجزاء «المجلّة» الماضية لأهمّ العوامل المسبّبة الأزمة الاقتصادية في البلاد. ونحن نخصّ هذا الجزء بدرس عامل مهمّ في تطوير حياتنا الاقتصادية هو عامل المهاجرة.

كانت المهاجرة في بدء عهدها محدودة جدًّا ولم يكن لها في ذلك الزمن شأن في اقتصاديات الأمّة السورية أو تأثير يدعو إلى إفراد درس خاصّ لها. فقد كان المهاجر القديم يذهب عبر البحر على أمل أن يجمع قليلاً من المال يتمكّن به من تحسين أحوال معاشه في وطنه ثمّ يعود. ومع أنّ أكثر الّذين هاجروا لم يعودوا إلى الوطن إلاّ ليتزوّجوا أو ليزوِّجوا أبناءهم فمعظمهم ظلّوا مرتبطين بأهلهم الباقين وكانوا يمدّونهم بالمساعدة المالية المستمرّة.

تطوّر شأن المهاجرة، فيما بعد، تطوّرًا خطيرًا فقد رأى المهاجرون أن يستقدموا أهلهم إليهم، فيستعينوا بهم في الأعمال لقاء إمدادهم بالمال؛ ووجدوا أنّ وجود أهلهم بقربهم أقلّ نفقة لهم من بقائهم في الوطن بعيدين عنهم. كان ذلك أوّل ظاهرة تدلّ على استقلال شؤون المهاجرين الاقتصادية عن شؤون الوطن. ثمّ استفحل أمر المهاجرة إلى حدّ خطر. ولمّا كان معظم المهاجرين من أهل الجِدّ والعمل كان الأثر الّذي خلّفوه وراءهم أثرًا سيّئًا فيما يختصّ بالإنتاج والعمران واستهلاك المحصول والمنتوج في الوطن.

تأثير المهاجرة

إنّ أظهر نتائج المهاجرة في لبنان يبدو في أن الأراضي الّتي كانت فيما مضى مزروعة عِنبًا وتينًا وفاكهة من أنواع متعدّدة بارَتْ وأصبحت مواتًا. فكثرت المناطق الجرداء في الجبل، حتّى أنّ ”الهضاب المخضلّة والأودية الظليلة“ تكاد تكون أثرًا تاريخيًا فقط لولا بعض المصايف القليلة الّتي استبقت شيئًا من أشجارها وأحراجها يعتدل به المناخ قليلاً. فلبنان الجميل قد أصبح لبنان الأجرد، الأقرع، القاحل، الّذي يبدو من بعيد جميلاً بألوان تربته وظلال صخوره ومرتفعاته، ولكنّه جافّ، كالح للمقيم الّذي يريد لطافة النسيم وطراوة الفيء وبهجة الخضرة ورونق الزهر. ولو أنّ لبنان اليوم كما كان منذ خمسمائة سنة لكان مورد الاصطياف أضعاف أضعاف ما هو عليه الآن.

لعلّ أعظم تأثير للمهاجرة هو تقليل الأيدي العاملة والاستهلاك. وقد يكون قلّة العمل والاستهلاك في سورية من أعظم عوامل زيادة ما في السوق على الحاجة إليه – أي الكساد. ولم يكن الناس هنا يشعرون بهذه الحقيقة قبل الأزمة العالمية·، لأنّ قسمًا كبيرًا من المهاجرين الّذين تركوا في الوطن أهلاً وعيالاً كانوا يتابعون المددَ المادّي، فلمّا نزلت الأزمة العالمية بهم قطعوا المددَ عن الوطن وانصرفوا إلى معالجة شؤونهم الخاصّة. ومن هذه الحقيقة يمكننا أن نستنتج أنّ المُهاجِر ليس لوطنه الأوّل بل لوطنه الثاني.

إنّ قسمًا كبيرًا من الشبّان المتعلّمين هجر وطنه وارتحل إلى السودان حيث استُخدم في دوائره. والسودان بلد غير مضياف من حيث المناخ، فطبيعته الحارّة لا توافق المزاج السوري المعتدل. ومع ذلك نرى أنّ شبّان الجامعات السوريين فضّلوا سهولة الحصول على المعاش في البلدان غير المضيافة على صعوبة العمل في بلادهم. وهم لو بقوا في الوطن لكانوا أحيوا مواتَ أرضهم وميت آمال أمّتهم.

في هذا الواقع نرى صورة جليّة من إساءة استعمال العلوم الّتي أتت بها الجامعات إلى سورية. فإنّ متخرّجي هذه الجامعات السوريين لم يستخدموا هذه العلوم لترقية مقدرتهم على إصلاح وطنهم وبيوتهم وشؤون أمّتهم وترقية حياتهم وتهذيب أولادهم، بل استخدموها للانصراف عن العمل المتعب الّذي يحتاج إلى الجهد وعرق الجبين، وطلب الأعمال الكتابية الهيّنة في بلاد الغربة. إنّهم فضّلوا الاستخدام على السيادة والاعتماد على غيرهم على الاستقلال.

لقد مضى الآن على تاريخ الهجرة السوريّة وقت طويل يمكّننا من المقابلة بين فوائد المهاجرة للأمّة والوطن وأضرارها. وإنّنا نجد أنفسنا مضطرّين إلى التصريح بأنّ خسارتنا في المهاجرة كانت أعظم كثيرًا من ربحنا. والّذين لا يزالون يعتقدون أنّ المُهاجر يظلّ مرتبطًا بوطنه وأمّته وأهله هم على ضلال. فقد كنّا في المهجر ورأينا عددًا كبيرًا من رجالنا وشبابنا يهتمّون بلهوهم والمقامرة أكثر كثيرًا ممّا يهتمّون بوطنهم وأهلهم. ومع تمادي الأيّام لا يعود المُهاجر يفكّر في وطنه إلاّ نادرًا وحين يُنبَّه إلى ذلك.

إنّ المهاجَرة قد كلّفت البلاد خرابًا كثيرًا من عمرانها وجفافًا كثيرًا من زرعها وضرعها واضمحلال قسم كبير من نتاجها، ومداواة سوء نتائج المهاجرة الإقلاع عنها. فالأراضي السورية تحتاج إلى الأيدي العاملة والأمّة محتاجة إلى أبنائها.

مجلّة «المجلّة» بيروت، السنة 19، المجلّد 8، العدد الرابع، حزيران 1933

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *