“العبيرو”، إنّهم قبائل الحقد والشرّ والمجازر… والطوطم “يهوه”، إلههم القبلي الخاص بهم، لا يأمر إلا بالقتل وبقْر بطون الأمّهات وإبسال كلّ نسمة حياة.. واحتلال أراضي الآخرين… وهذا شأنهم وسلوكهم منذ مرورهم المزعوم بأرضنا قبل ثلاثة آلاف عام وحتى اليوم. يكيدون المكائد… ويدسّون الدسائس… ويتباهون بالفعل الشنيع… ينسخون قصص وحكايا الشعوب التي نبذتهم وقاتلتهم… فيمسخونها ويحرّفونها ويدوّنونها في توراتهم. فإذا بـ”العهد القديم” مصدرًا لثقافتهم، وخديعة خدعوا به الشعوب ومن وصلت إليه أقدامهم، وعنوان خديعتهم وعد “يهوه” لهم بأن يُسكنهم أرض الكنعانيين وتكون لهم “أرض الميعاد”. وإذا إلههم “يهوه” دلاّل عقارات يعدهم بقطعة أرضٍ محدّدة، “أرض الكنعانيّين”، ولا يعدهم بالجنّة التي وعد الله الناس بها خارج حدود الزمان والمكان.
وسرت الخديعة اليهودية القائلة بالعودة إلى “أرض الميعاد”، وأكثر من وقعوا في متاهاتها هم رجال الدين المسيحيين وعلى رأسهم رجال الكنيسة في أوربا. وتمكن اليهود من انتزاع قرار كنسي هو غايةٌ في الخطورة، يقضي بدمج “التوراة” و”الإنجيل” وإصدارها في كتابٍ واحد هو “الكتاب المقدس”. وهكذا أصبح المسيحي ملزمًا بقراءة “التوراة” وحفظها قبل قراءة “الإنجيل المقدّس”. وهذه حال من وصل إلى مركز القيادة في الدول الغربية ونخصّ منهم قادة إنكلترا وفرنسا ودول أوربا الشرقية، ولم تكن أمريكا في ذلك الوقت قد وقعت كليًا في الخديعة اليهودية بدليل وصيّة الرئيس الأمريكي بنيامين فرانكلين التي حذّر فيها الشعب الأمريكي من خطر اليهودية.
وفي القرن التاسع عشر نشط أغنياء ومفكرو اليهود في أوربا الغربية والشرقية، وتغلغلوا بين قياداتها وزعمائها ليحصلوا على دعمٍ مكّنهم من إطلاق الحركة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر، وكان لها دورٌ مهمٌ في بداية القرن العشرين، أثّر في اندلاع الحرب العالمية الأولى وفي نتائجها، مقابل تصريحٍ حصلت عليه الحركة الصهيونية من وزير خارجية بريطانيا “آرثر بلفور” يقضي بإعطاء وطن قومي لليهود. وأخذت إنكلترا وفرنسا على عاتقيهما مسألة تنفيذ هذا الوعد، وهما اللتان سبق لهما أن اتّفقتا على تقسيم سورية الطبيعية – “الهلال الخصيب” إلى منطقتَي نفوذ وانتداب لهما، وفق اتفاقية سايكس – بيكو. وقد أيّد هذه الاتّفاقية عبد العزيز آل سعود، مقابل دعم إنكلترا له بتوحيد المناطق الثلاث في شبه الجزيرة العربية (نجد والحجاز وملحقاتها) في مملكةٍ واحدة، يتوّج ملكًا عليها ومن بعده أبناء عائلته.
وبعد الحصول على “وعد بلفور” عام 1917 نشط زعماء الحركة الصهيونية بشكلٍ ملحوظ كحركةٍ سياسية، يمكن القول فيها إنّها الوجه السياسي لليهودية ورأس حربتها لتنفيذ وعد “يهوه”. وقد تمكّن هؤلاء من إقناع زعماء الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى بتكوين منظّمةٍ دوليّةٍ هي “عصبة الأمم”، كان همّها اقتسام الدول المستضعفة ونهب خيراتها، وخلق مناخاتٍ بين دول العالم يتمكّن اليهود، من خلالها، من التأثير على سياسات معظم الدول، وإقناع زعمائها بأهداف الحركة الصهيونية، وإيقاعهم في الخديعة اليهودية “للعودة” إلى فلسطين “أرض الميعاد”.
فتحوّل تصريح بلفور من وعدٍ شخصي، إلى وعد دولة “بريطانيا”، إلى مشروعٍ دولي تعمل جميع دول “عصبة الأمم” على تبنّيه وعلى تحقيقه خلال فترة الانتداب الانكليزي والفرنسي على كيانات أمّتنا السورية وعالمنا العربي.
وبعد عام 1920 شعر اليهود أنّ هناك حضنًا جديدًا قابلاً لضمّهم هو الولايات المتحدة الأمريكية، فتوجّهوا إليها لدعم مشروعهم، أو كبديل عن حضن أوربا، في المستقبل، إذا اقتضى الأمر. في حين كان ساستنا والمتنفّذون من أبناء أمّتنا في حالة جهلٍ تامٍ لما تخطّط له الحركة الصهيونية، وما يعمل على تنفيذه قادة الدول الغربية دعمًا لليهودية العالمية.
إلاّ أنّ فتىً من أبناء أمّتنا السورية، وكان في العشرين من عمره، قد تنبّه إلى خطورة اليهودية، ونبّه، في مقالةٍ له نشرها من مغتربه عام 1925، من خطورة الحركة الصهيونية على الأمّة السورية، ودعا أبناء سورية إلى تنظيم حركةٍ في “الشرق” على درجةٍ عالية من الدقّة والتنظيم، لمواجهة الحركة الصهيونية. هذا الفتى هو أنطون سعاده، الذي عاد من مغتربه ليطلق في العام 1932 الحركة القومية الاجتماعية، وغايتها بعث نهضة في الأمّة السورية تعيد إليها حيويّتها وقوّتها، وتعمل على تثبيت سيادتها واستقلالها، وتؤّمن مصالحها وترفع مستوى حياتها، متضامنةً مع بقية أمم العالم العربي عسكريًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا لمواجهة التحدّيات الخارجية. وأعلن حربه على اليهودية العالمية، مستنفرًا قوى الأمّة لمناهضة المخططات اليهودية، وأنشأ فرقةً عسكرية من السوريّين القوميّين الاجتماعيّين، هي فرقة “الزوبعة”، التي تولى قيادتها فترةً الرفيق جورج عبد المسيح، للقتال إلى جانب أبناء شعبنا في فلسطين يوم أعلنت الثورة في عام 1936، لمواجهة قوات الانتداب البريطاني وعصابات الهاغاناه وشتيرن الصهيونيّتين. يومها وقع مفتي القدس الحاج أمين الحسيني في الفخ البريطاني وفي الخديعة اليهودية فأوقف الثورة، ما دفع سعاده إلى أن ينبّهه، وأعلن في وجه الحاج أمين الحسيني أنّ وقف الثورة عام 1936 يعني قيام دولة “إسرائيل”، وهذا ما حدث. إلاّ أنّ الحركات الوطنية والشعبية لم توقف مقاومتها للانتداب البريطاني، واستمرّت في مقاتلة العصابات الصهيونية، ولنا دليل على ذلك سقوط ابن مدينة حماه على بطاح فلسطين الرفيق الشهيد سعيد العاص، قائد فرقة الزوبعة القومية، وكذلك ابن اللاذقية الشهيد الشيخ عزّ الدين القسام…
وما بين الحربين العالميتين كثّف اليهود من عملية نقل حضانتهم إلى أمريكا، وأجّجوا الصراع ما بين دول أوربا الصناعية واليابان، لتنفجر الحرب العالمية الثانية عام 1939 مدمّرةً أوروبا واليابان، وتنتهي بانتصار دول “الحلفاء” وأمريكا، فتتّجه هذه الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية إلى تنفيذ خطةٍ يهودية تقضي بإنشاء جمعيةٍ دولية تكون هي “القاضي” بين الدول، وتؤمّن مصالح الدول المنتصرة في الحرب، ويتمكّن اليهود من خلالها من الحصول على قرارٍ يمكّنهم من تنفيذ تصريح بلفور، بإنشاء وطنٍ قومي لهم في فلسطين له صفة “الشرعية الدولية” وهكذا أنشئت في العام 1945 “جمعيّة الأمم المتّحدة”، وبفكرةٍ يهودية.
لم يكد يمضي عامٌ واحد على تأسيس “هيئة الأمم المتحدة”، حتى استطاع اليهود أن يحصلوا، من جمعيّتها العمومية، على قرارٍ يحمل الرقم 181 تاريخ 29 تشرين الثاني 1947، يقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين “عربية” و”يهودية”، وترك القدس تحت الوصاية الدولية لمدة عشر سنوات، على أن يصبح هذا القرار نافذًا نهائيًا قبل بدء تشرين الأول عام 1948. كما فرض القرار على كلّ واحدةٍ من “الدولتين”، تقديم تصريحٍ إلى “هيئة الأمم المتّحدة”، يكون بمثابة خطوطٍ رئيسية لدستور تلك “الدولة”… وهكذا تمّ اغتصاب فلسطين بقرارٍ من المنظّمة الأممية، ولتقوم دولة الاغتصاب “إسرائيل” بقرارٍ على ورق مخالفٍ للواقع الاجتماعي والقومي لفلسطين.
وتحرّك قادة كيانات أمّتنا وساستها والعالم العربي تحرُّكَهم الخجول والمشلول لمواجهة قرار تقسيم فلسطين، ولا نجد في التاريخ نتائج تُذكر لهذا التحرّك… في حين تحرَّك يهود العالم، تقودهم الحركة الصهيونية، تحرّكًا مذهلاً لتنفيذ قرار التقسيم… كما أخذت قوات الانتداب البريطاني بالانسحاب تدريجيًّا من مواقعها في فلسطين وتسليمها للعصابات الصهيونية، تمهيدًا لتنفيذ قرار “هيئة الأمم المتحدة” رقم 181. وقد حدّدت بريطانيا يوم 15 أيار 1948 موعدًا نهائيًّا لانسحاب قواتها وإنهاء الانتداب على فلسطين. وفي اللحظة نفسها يعلن قادة العدوّ اليهودي عن قيام دولتهم اليهودية “إسرائيل”، في 15 أيار 1948، لتبادر الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وتعلن اعترافها بدولة العدوّ – “إسرائيل” ويتداعى عددٌ من دول العالم – وليس كلّها – للاعتراف بها. وهكذا ارتكبت الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي أكبر جريمةٍ في التاريخ، حين أصدرت قرارًا يقضي بتشريد شعبٍ من أرضه، وتجميع شذّاذٍ ليحلّوا محله، وينشئوا “دويلةً” ذات مجتمع غير طبيعي تنتفي عنه كلّ خصائص علم الاجتماع البشري، و”دولةً” تنتفي عنها كلّ مقومات الشرعية… فلا حدود لدولة العدوّ اليهودي – “إسرائيل”، ولا دستور لها، ولم تكتمل “شرعيّتها الدولية” بعد حتى داخل المنظّمة التي أصدرت قرارًا بإنشائها.
وتحرّك “العرب” مرّةً أخرى بعد 15 أيار 1948 تحت قيادة الملك عبد الله لتحرير فلسطين. ويا خجلنا من التاريخ، وخجل تلك الجيوش العربية التي تحرّكت لتحرير فلسطين! فقائد القوات العربية الملك عبد الله لا يعرف من هم قادة بقية الجيوش العربية لينسِّق معهم، ورئيس أركان الجيوش العربية السيد طه باشا الهاشمي كان مقرّ قيادته في أحد مقاهي عمّان، والملك فاروق تاجر أسلحةٍ فاسدة، ووزير دفاع الجيش الشامي المهندس أحمد الشرباتي لا تملك وزارته أجهزة هاتف لإجراء اتّصالات بين وحدات الجيش، ما دفعه للاستقالة من وزارته بعد خمسة أيام من حرب الجيوش العربية الفاشلة عام 1948.
والأخطر من فشل تلك الجيوش في تلك الحرب، هو ما أقدم عليه أنور السادات سليل الملك فاروق، بتوقيعه اتّفاقية “كامب ديفيد”، ليلحق به السيد ياسر عرفات، رئيس منظّمة التحرير الفلسطينية، موقّعًا اتّفاقية “أوسلو”، وبعدها التحق الملك حسين، حفيد الملك عبد الله، ووقّع اتّفاقية الاستسلام مع العدوّ في “وادي عربة”. وهكذا منحوا العدوّ اليهودي ما يساعده على رسم حدودٍ له، وعلى الحصول على اعترافٍ جزئيٍ بشرعية دولة الاغتصاب “إسرائيل” تمهيدًا للاعتراف بيهوديّتها.
وبعد توقيع معاهدات الذلّ والاستسلام في “كامب ديفيد” و”أوسلو” و”وادي عربة”، نشط منظّرو الحركة الصهيونية وقادة اليهودية العالمية في صياغة مشروعٍ تقسيمي جديد، يهدف إلى تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ، على أسسٍ مذهبية وطائفية وعرقية، في مشروع “الشرق الأوسط الجديد” و”الفوضى الخلاقة”، بعد أن أدّت اتّفاقية “سايكس – بيكو” غرضها في تجزئة أمّتنا إلى كياناتٍ سياسيةٍ هزيلة.
أمام هذا الواقع يحقّ السؤال: ما العمل وما هو الحلّ؟ وهل من أمل؟
نعم الأمل موجود… وحلّ الدولتين ليس حلاًّ، بل حتى فكرة “فلسطين دولة واحدة من النهر إلى البحر” ليست حلاّ لأنها تزيد التمزيق السياسي في وطننا… و”العمل” هو أن نعي وجودنا شعبًا واحدًا في وحدة حياة ووحدة مصير، وأن نبقى في ساح الصراع في مواجهة الحركة الصهيونية – الوجه السياسي لليهودية – ودولة الاغتصاب “إسرائيل”.
إنّ أوجه الصراع متعدّدةٌ متنوّعة لكلّ حسب موقعه وما يمتلك، وتتمثّل في المقاومة الوطنية المتواجدة في أرض فلسطين المحتلّة وفي لبنان وفي الشام. وفي مجابهة كلّ المشاريع الهادفة إلى النيل من وجودنا، وفي مناهضة كلّ التحرّكات الهادفة إلى التطبيع مع العدوّ “الإسرائيلي”.
ونحن نعرف كما أبناء شعبنا أنّ صراعنا مع العدوّ اليهودي هو صراع لا ينتهي بالكلام والتمنيات بل بالبناء العقدي الحربي الذي يجمع كلّ السوريين في وقفة واحدة.
ونعاهد أبناء شعبنا أنّنا باقون في خط الصراع مع العدوّ اليهودي إلى أن تتمّ إستعادة حقّنا القومي، ويكون السلام الذي يجب أن يسلّم فيه أعداء أمّتنا بحقّها في الحياة والحرية والتقدّم… وإلى أن يعود ما اغتُصب من أرضنا سواء أكان في فلسطين أو في باقي الأجزاء المغتصبة من أراضي وطننا.
فتحية إلى المقاومة في فلسطين ولبنان وفي الشام… ولينصر الشعب من يعمل لانتصار قضيّته ولتحقيق مصالحه ولإثبات حقّه في الحياة وفي الوجود.
وتحية إلى أبطال شعبنا الأسرى في سجون الاحتلال “الإسرائيلي” المضربين عن الطعام، الثابتين على موقفهم، الرافضين الإذعان والاستسلام، والمضحّين الفدائيين.
النصر لقضيّتنا العادلة..
في 15 أيار 2017
المفوّض المركزي
الرفيق عبد القادر العبيد