دعوة الى مهرجان الشعر القومي

جان داية: فرديّة تعصى على كلّ تقويم

في الرابع والعشرين من تشرين الأوّل 2016، نشرت جريدة النهار في عددها 26106، في صفحة “أدب فكر فنّ” مقالةً لجان داية بعنوان “نقاش في الحملة الحزبيّة القوميّة الضارية على جان داية، وفي ردّه عليها”، يصوّب فيها على الذين رفضوا ما أصدره من مقالاتٍ نسبها إلى أنطون سعاده في كتابَين: الأوّل “رأي النهضة” والثاني “رأي الجيل الجديد”؛ وأثنى على آخرين قلّةٍ جاروه في النسَب الهجين.
بدايةً أريد أن أؤكّد أنّها المرّة الأخيرة التي أكشح فيها الضبابيّة عن تعثّرات اعتدنا عليها في كتابات السيّد جان داية المأخوذ ببعض من يغدقون عليه صفاتٍ لا يمتّ إلى معظمها بنسبٍ، وإن دغدغت فرديّته التي تعصى على كلّ تقويم.
والواقع أنّني أحجمتُ عن الردّ، بمعناه الشامل، لأنّ السيّد داية بات بحاجةٍ إلى من يداوي قصوره اللغوي، وعجزه عن هضم ما لا ينسجمُ مع “همروجاته” الفرديّة، التي يخيّل إليه فيها “توقّع حفاوةٍ من كلّ المسؤولين والمثقّفين القوميين الاجتماعيين بالكتاب (رأي النهضة)، مرفقة ببطاقات تهنئة للداعي [جان داية]. فكانت المفاجأة”.
يا لسوء الفرديّة التي جعلته يظنّ، وبعض الظنّ إثم، أنّ ما قام به في “رأي النهضة” و “رأي الجيل الجديد” عملٌ جبّار لم يهتدِ إليه أيُّ قوميٍّ، مسؤولًا إداريًّا كان أم غير إداريّ، أو أيٍّ من المهتمّين بعقيدة سعاده؛ وكانت الصدمة التي كان يفترض أن تعيده إلى الصواب، فإذا بها تزيد من إغراقه في أتون فرديّته وتضلّه سواء السبيل.
وقد وصل به الضلال إلى حدّ عدم فهمه مدلول الكلمات والعبارات، وليست المرّة الأولى؛ ففي كتابات سابقة صوّبنا له مدلولات بعض المفردات، واعتقدنا أنّه قد دقّق فيها، فإذا به يسقط في فخّ أغلاطه مرّة أخرى، إمّا كمن “يجدع أنفه نكايةً بوجهه”، وإمّا أنّه تجاهل التوضيحات، ولم ينصرف إلى التدقيق فيها، وهذا لا يليق، بلقبٍ مهلهل “الباحث”، فاستأنس باللقب وأصمّ أذنيه عن سماع إرشاداتٍ بانية ممّن يهتمّون بالشأن الفكري.
وبناءً عليه لن أجولَ في كمٍّ من عثراته، وأتابعه نقطة إثر نقطة، بل سأكتفي بعدد محدودٍ جدًّا منها علّها، للمرّة الأخيرة، توقظه ممّا يتخبّط به، فيسلك سواء السبيل، من جهة، ويكتشف القارئ المتابع المدى الموجع الذي وصل إليه، كونه لم يضع حدًّا لهذا المسلك المريب، من جهة أخرى:
1- فهمٌ قاصر: في سياق المكتوب والمنشور يقول السيّد داية مستعيدًا ما كتبتُه سابقًا حول “رأي النهضة” بأنّ داية أصدر الكتاب: “بدافع الشهرة على حساب الكبار، وبدفعٍ ممّن يعملون على تشويه عظمة الكبار” وكعادته ينتقي ويستنسب، فالقول الذي أوردته هو على الشكل التالي: “…فهل المقصود إثارة البلبلة والفوضى، على غرار ما يحصل بالنسبة لكثيرين من الكبار المبدعين، تارة بدافع الشهرة على حساب الكبار، وتارةً بدفعٍ ممّن يعملون على تشويه عظمة الكبار”؛ فهل إنّ وراء الأكمة ما وراءها؟
وبناءً على الاستشهاد المبتور، يطرح أسئلةً تابعة: “السيّد نايف معتوق الذي يتّهمني بالقبض من أشخاصٍ يعملون على تشويه سمعة الكبار، بماذا يجيب القاضي إذا سأله عن أسماء الأشخاص الذين دفعوا لي من أجل تشويه سمعة الكبار؟ وما هو المبلغ المدفوع؟ وهل كان بالدولار أم بالعملة اللبنانيّة؟”.
قرأت الجملة الآنفة لطلّابٍ في الصفّ الأوّل ثانويّ فكان جوابهم جميعًا ما يتوافق مع واقع اللغة العربيّة. وهذا الواقع المعجميّ يوضح معنى لفظة “دفْعٍ”؛ دفعه نحّاه وأبعده وردّه؛ ودفعه إلى كذا: اضطرّه؛ ودفعه في كذا: أدخله فيه: وبالتالي هو حضّ و “دفش” (بالتعبير العامّي) للقيام بأمرٍ ما؛ أمّا أن تنقله أجنحة الخيال إلى عالمٍ يهواه وهو الدفع في الشأن المالي، فهذا ما يثير عجب العقّال، فيشفقون على صاحبه، ويرثون لحاله؛ وإن انسحبَ على كلّ من “تحت إبطه مسلّة تلكزه”؛ فمسألة الدفع والقبض وما إلى ذلك هي سمة التُّجّار. ونحن أهل فكرٍ وعلم، ولسنا تُجّارًا نشتري ونبيع ونُرتشى ونستعين بالدولار أو العملة اللبنانيّة أو الإسترلينية أو سواها…. هذا ندعه للمهووسين بالتجارة الدارجة. هنا ينقلب السيناريو، فالقاضي لا بدّ أن يسأل السيّد داية: “أنت العالِم الباحث، وصاحب المؤلّفات العديدة، هل لك أن توضح لنا معنى الجملة التي انتقيتها، وبالتحديد كلمة “دفع” حيث استعملت بالطريقة التالية: “بدفعٍ من” وليس “بدفعٍ إلى” حيث يكون المعنى ما استنتجتَه؟ فلا مشاحة في أنّه سيقع في ورطةٍ، إن أعطاها المعنى الحقيقيّ سيدينُ نفسه، وإن أصرّ على الالتواء والتجاهل والاستعانة بالسريرة الخبيثة، فإنّه سيواجَه بالذمّ والتصغير من قِبلِ القاضي.
2- “همروجة النقد”: “في تعبيره “همروجة النقد” دليل آخر على جهله واقع المدلول اللغويّ لكلّ من المفردتين “همروجة” و”النقد”؛ فـ”الهمروجة” من فعل “همرج”: همرج عليه الخبر: خلّطه عليه؛ والهمرجة: التخليط في الخبر والاختلاط والخفّة، ولغط الناس، والباطل والسرعة؛ وكلّها معانٍ لا تنسجم مع علميّة “النقد” الذي هو: فنّ تمييز جيّد الكلام من رديئه؛ وهو يجمع بين نقيضين لا يجتمعان لا في العلم ولا في المنطق ولا في كليهما معًا.
3- رفض آخرين لـ”همروجة جان داية”: إنّ رفض الدكتور ميشال عبس للنسب في “رأي النهضة” و “رأي الجيل الجديد” هو رأي في عين الصواب، وينسحب أيضًا على كلّ محاولة شبيهة، ويجب أن يأخذ به كلّ حريص على العقيدة السوريّة القوميّة الاجتماعيّة؛ فنحن نشدّ على يد الدكتور عبس، وعلى أيدي المؤمنين بصفاء عقيدة سعاده، لكي يرفضوا هذا الجنوح، فنضع حدًّا لـ “شهيّة الانتهازيين وأعداء النهضة”، ونوقف “نسبة مقالات أو أقوال إليه [ إلى سعاده] لا علاقة له بها. هذا الأمر من شأنه السعي إلى تضليل القوميين الاجتماعيين وإلى تفخيخ فكر سعاده من الداخل”؛ “…قد تكشف لنا الأيّام، يكمل الدكتور ميشال عبس، مزيدًا من النصوص التي قد تلصق بسعاده من قبل بعض المصابين بجنون الخلود يتوسّلونه عبر إلصاق اسمهم باسمه. فاحذروا الوقوع في الشرك”. فما أكثر المصابين بهذا المرض النفسيّ، يا حضرة الدكتور، الذين يعانون منه ولا يدرون، والذين يحاولون نقل مرضهم إلى الآخرين فينجحون حينًا ويفشلون أحيانًا.
4- مراقبة الكتب الحزبيّة: إنّ المراقبة الحزبية من قِبل الإدارات المعنيّة في الحزب هو أمر دستوريّ إذ لا يجوز أن تصدر كتبٌ لقوميين تخالف روحيّة العقيدة القوميّة الاجتماعيّة، وإلّا ندخل في نفق الفسيفساء الفكريّة التي تتناقض مع جلاء النهضة ووضوحها، وللزعيم أكثر من مثال على ذلك.( الرجوع إلى رسالة من الزعيم إلى “عضوي اللجنة المفوّضة” تاريخ 30 آب 1939، حيث يقول: “… وقد قلت لرشيد [شكّور] إنّه لا مانع عندي، أو عند مراجع الحزب العليا، أن يكون لبعض الأعضاء نظريّات خاصّة في الشؤون التاريخية أو الثقافية. ولكنّ هذه النظريات تظلّ خاصّة إذا لم تتبنّاها مراجع الحزب المختصّة ولا يمكن تعميمها بصورة تحمل طابع الحزب أو تدلّ ضمنًا على موافقته. فلا مانع عند الدوائر العليا أن يؤلّف الرفيق [ رشيد] شكّور كتابًا في تاريخ سورية يتضمّن نظرياته، ولكن بعد صدور الكتاب ستتناقش فيه المراجع الثقافية وتبدي رأيها فيه. فإذا رأته مخالفًا للتعاليم القومية فإنّها تمنع القوميين من شرائه وتعلن أنّه لا يعبّر عن رأي النهضة القومية. وقد يتضمّن الكتاب اختلافًا فكريًا – روحيًا – يحمل القوميّين على اعتبار صاحبه غير قومي وقطع صلاتهم به”.
أعود وأكرّر أنّها المرّة الأخيرة، التي أسمح لنفسي فيها بالردّ على جان داية، لأنّ الحالة التي وصل إليها لم تعد جديرةً بالردّ، خاصّة وأنّ الألفاظ والتعابير باتت خارجة عن إحاطته العقلية، بحيث بات قاصرًا عن إدراك حقيقة المعاني التي هي أوضح من نور الشمس. ولنا معه في ردودٍ سابقة، نشرت في كتاب “من العقد الفرديّة إلى رحاب العقيدة” الصادر عن “دار الركن”، عام 2013 لنا معه أمثلة كثيرة تكشف عن هناتٍ لغويّة وفكريّة لا تتوافق مع أبسط قواعد البحث. ولن نعود إليها ، ومن يريد التأكّد، عليه أن يعود إلى الكتاب المذكور آنفًا.
يبقى أن نؤكّد للغيارى على مصلحة الأمّة والعقيدة السوريّة القوميّة الاجتماعيّة، والحزب السوري القومي الاجتماعي، أننا بالمرصاد لكلّ المتربصّين بالأمّة شرًّا من الداخل ومن الخارج. لأننا، بكلّ ما نفكّر به ونعمل له، لحياة سورية وحياة الزعيم.
في 28 تشرين الأوّل 2016 نايف معتوق

تمّ نشر هذا الردّ في جريدة النهار (العدد 26117) بتاريخ 5 تشرين الثاني 2016

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *