إضراب بيروت

أصبحت بيروت المستحمّة في البحر على إضراب شامل تناول جميع المتاجر والمصانع والمدارس. وكان التجار وأصحاب الأعمال يتجمّعون في الأسواق والأندية والمقاهي، بهدوء رصين وصبر يكاد يكون نوعًا من أنواع اليأس والملل.
وقد شهدت بيروت نهار أمس مشهدًا آخر، فرجال الدرك والشرطة والقنّاصة، يرتدون القبعة الرصاصية ويتمنطقون بأسلحة الحرب والقتال، ويجوبون كلّ زقاق وكل زاوية، ويملأون الشوارع العامّة مستعدّين للطوارئ والمفاجِئات. ولعلّ ساحة الشهداء قد توشحّت أكثر من غيرها بوشاح هذا الصباح المحموم، وألقى عليها رجال الأمن رداء من أردية الهيبة والقوة والاستعداد للهجوم والدفاع.
لقد أضربت بيروت احتجاجًا على الحالة التي يغرق فيها لبنان من جميع نواحي الحياة. فالشعب ضاق ذرعًا بالشلل القائم في إدارات الدولة، ولمس أنّ الاحتجاج في العرائض، وتأليف الوفود، وغيرها من الوسائل الكلامية هي أساليب لا تُجدي نفعًا. فلم يرَ من وسيلة غير الإضراب، والإضراب سلاح قويّ، يهزّ البلاد هزًّا، ويُخيف رجال الحكم خوفًا كبيرًا، وبالتالي يؤدّي غالبًا إلى نتيجة مرضية.
إنّ العاصمة اللبنانية، تُضرب اليوم احتجاجًا على المصير الذي وصلت إليه جميع طبقات الشعب على السواء، وفي احتجاجها هذا لون من ألوان العنفوان والألم معًا. فالجوّ في أفق لبنان أصبح جوًا محمومًا تعبق فيه رائحة النقمة وتنتشر في أرجائه سموم الانحطاط والتقهقر والإرهاق.
إنّ حالة الجمهورية اللبنانية، تحتاج إلى علاج جديد شافع، هي بحاجة إلى كثير من التضحية بالمصالح الشخصية في سبيل المصالح العامّة. وهي بحاجة أيضًا إلى نظرة عميقة في كيفية السير بالشعب وسط هذه الضائقة المستفحلة إلى فسحة الرخاء والطمأنينة.
مما لا ريب فيه، أن إضراب العاصمة اللبنانية، ليس مسبَّبًا عن حلّ الفئات الطائفية المتلبسة بلباس سياسي، وليس مسبَّبًا عن اعتقال جمهرة من متظاهري يوم الأحد الفائت بل مسبَّب عن الضيق المستحكم بخناق الشعب كله، هذا الضيق الذي يتناول مصالح ومرافق الحياة في لبنان طولًا وعرضًا.
إنّ الحكومة قد زلقت في مهواة ليس له مبرِّر معقول، فحوادث الائتلاف والتوظيف وحوادث الانتخابات والتضخّم في الهيكل الحكومي، وقضايا البنزين والمحامين، والمديونين، والفئات المنحلّة، قد تراكمت على مسرح السياسة اللبنانية الحكومية وأدّى تراكمها إلى الاعتباط، والوعود الوهمية، والجمود عن مجابهتها وحلّها الحلّ المطلوب، مما دفع الشعب إلى اتّخاذ هذا الموقف العدائي الاحتجاجي في التظاهر والإضراب الشامل.
الحقيقة، أنّ التضامن الظاهر بين جميع الطبقات في الموقف الأخير الذي هو الإضراب وإغلاق المتاجر، وتوقيف الأعمال، هو تضامن يبعث إلى التأكيد بانتشار واستفحال الفكرة غير الراضية عن أمور عدة في مثل هذه الأيام العصيبة. ومهما يكن من أمر استفحال هذه الفكرة فهي لا تدعو إلى الارتياح التام.. وإن يوم 21 نوفمبر [تشرين الثاني] “الأحد” قد ابتدأ بذرّ الملح على الجروح.

جريدة «النهضة»، العدد 38، 26 تشرين الثاني 1937. انطون سعاده


أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *