في شهر آذار 2011 بدأت ملامح الأزمة العامة في الشام تظهر إلى العلن وتطفو على سطح الواقع، بأشكال الحراك الشعبي السلمي الذي عمّ عدة مدن ومحافظات، ثم ما لبث أن تطور بعد حين، إلى مواجهات مسلحة عنيفة وقد غذّت وفجرّت ذلك الحراك الغاضب تراكماتٌ سلبية مزمنة على مدى عقود من المعاناة والألم والقهر رزح تحتها الشعب في الشام على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، ما جعلته يثور وينتفض عند أول بارقة أمل حملتها رياح “الربيع العربي”، تلك المعاناة الكبرى التي كان يتم تجاوزها وتجاهلها وتبسيطها من السلطة تحت أعذار ومسميات شتّى، أبرزها المقولة- الذريعة “لا صوت يعلو على صوت المعركة”…
وقد رفدت ودعمت هذا الحراك الوطني المحقّ قوى إقليمية ودولية وجدت لها السانحة الذهبية والفرصة المثالية في تنفيذ “أجندتها السياسية” في تقويض الاستقرار العام في الشام جملة، تمهيدًا لتفتيت هذا الكيان وإضعافه وإدخاله في آتون “الفوضى المنظّمة” التي تعمل على استكمال تفكيك أوصال أمّتنا من العراق مرورًا بلبنان وصولاً إلى فلسطين، تحقيقًا للمصالح الأميركانية في النفوذ والسيطرة وإنقاذًا لمقولة “أمن إسرائيل فوق كلّ اعتبار”… فتمّ حرف مسار ذلك الحراك عن اتجاهه الصحيح ومطالبه المحقة وتمّ تشويه صورته وتبديل أهداف ووسائل عمله، فدخلت عليه جماعات خارجية، حاقدة ومجرمة، فأمسكت بناصية التخطيط والتوجيه، تساعدها إمكانياتها العالية في التحويل والتسليح والتجهيز لتحقيق أغراضها ومقاصدها في تدمير الشام شعبًا ودولة ومؤسسات. وكنا قد أبدينا آنذاك رأينا، كحزب، بكلّ ما يحصل، أسبابًا ونتائج، ونشرناه في بيانات ومقابلات إعلامية مرئية ومسموعة ومكتوبة، استنادًا إلى رؤيتنا الشاملة في البناء والإصلاح المشروحة والمفصلة في تراثنا الحزبي منذ العام 1932، والتي وضعت على أساسها مئات الدراسات والأبحاث المتخصّصة في كلّ الشؤون الحياتية، وآخرها عشرات الرسائل والمذكّرات المرسلة إلى القيادة في دمشق التي حذّرناها، باكرًا، من انفجار الوضع في الشام، بدفعٍ من عدوّ متربّص وشرس تدعمه قوى دولية وازنة تُحْسِن فتح الثغرات واستحداث الشروخ الموجودة في بنيتنا السياسية الهشة، وذلك انطلاقًا من حرصنا على سيادة شعبنا وسلامة وطننا وعملاً بالحكمة القائلة : “إن اتقاء الأغلاط خير من معالجة نتائجها”.
في ظلّ هذه الواقع المأزوم، وعلى وقع الإصلاحات التي قامت بها السلطة، وعلى رأسها الدستور الجديد، تأتي اليوم انتخابات مجلس الشعب لتكون إحدى تجليات هذه المسيرة الإصلاحية التي يؤمل منها أن تكون القاعدة الأساسية لبناء “سوريا المتجدّدة”…
ومهما يكن الأمر، فإن العبرة برأينا، لم ولن تكون في النصوص والأشكال مهما بلغت من دقة وصوابية، بل العبرة والدرس والهدف تبقى في حسن التطبيق وسرعة الإنجاز الذي يأخذ البلاد إلى ضفاف مستقرة وآمنة تكفل البدء بتأسيس حياة أفضل، يستحق أن يكون الدم الزكي الذي أهرق فداءً لمجدها وعزّتها وخلاصها.
من هذه الزاوية ننظر إلى الانتخابات النيابية في السابع من أيار 2012 على أنها المدخل الطبيعي لمستقبل سياسي واعد، في المقياس والامتحان في آن واحد، إلاّ أن خطورتها ليست في نجاحها كتجربة حية فقط، بل في فتحها لآفاقٍ جديدة للتحسين والتطوير في بلاد تحتاج إلى الكثير الكثير، والأهم من ذلك في فتح نافذة الأمل عند الشعب لحفزه على المشاركة في تغيير المصير وصناعة الغد المشرق.
إننا من موقع إيماننا وعملنا بالنظرة السورية القومية الاجتماعية نقارب ونفهم ونمارس السياسة انطلاقًا من القواعد التالية:
– ليست السياسة بنظرنا نفوذاً لأشخاص أو فئات أو عائلات.
– ليست السياسة مهنة خاصة يحترفها بعض الأفراد ويحتكرون بواسطتها النفوذ وتقرير مصير الشعب.
– السياسة عندنا وسيلة لا غاية. إنها فنّ بلوغ الأغراض القومية وتحقيق الغايات الكبرى للمجتمع كله.
– قيمة السياسة تكمن في نجاحها وتحقيقها لغاية نبيلة: هي خدمة ومصلحة الجماعة – الأمّة وارتقائها.
في ضوء هذا الفهم للسياسة عمومًا، نرى الانتخابات النيابية إحدى وسائل التعبير السياسية الراقية عن رأي المواطنين في المجتمع الذي نحن منه وله انتماءً وولاءً، فهي بنظرنا وسيلة لا غاية، وسيلة حضارية لغاية عظمى هي خير وتقدّم وازدهار وفلاح شعبنا. إنها في حقيقتها تساوي أي وظيفة في إدارة الدولة، فهي مسؤولية قومية بامتياز وليست فرصة للنفعيين.
انطلاقًا من هذه الرؤية، وتأسيسًا عليها، قرّر الحزب السوري القومي الاجتماعي خوض هذه المعركة السياسية، انسجامًا مع طبيعته كحركة سياسية تعمل لنهضة الأمّة ورفع مستوى حياتها، واتساقاً مع رؤيته المبدئية القائلة بالإصلاح السياسي كباب وحيد وضروري للإصلاح الشامل الذي يجب أن يطال بنية المجتمع في الشام بكلّ شؤونه وعلى كافة مستوياته، انطلاقاً من المسؤولية الأساسية التي تقع، أولاً، على الحكم – السلطة، بكلّ أجهزته ومؤسساته، بالتعاون الوثيق مع دور المجتمع ومنظماته الأهلية المتنوعة في التلبية والمبادرة والضبط والمراقبة تحقيقًا لهذه المهمة الخطيرة. وفي هذا السياق نتقدّم لنضع مبادئ وقواعد عامة تشخّص الأمراض والعلل والثغرات في المجتمع والدولة، وتجسّد حلولاً عملية تلبّي حاجاتنا إلى الإصلاح الشامل، وتفتح آفاقًا رحبة أمام تطوير أساليبنا مع حركة المجتمع المتطور لاستيعاب كلّ التحولات، ولصياغة قوانين، ووضع آليات جديدة ترافق مسيرة المجتمع الحيّ النامي ومنها:
– قال باعث النهضة القومية الاجتماعية، أنطون سعادة: “نحن نؤمن بحقيقة الشعب” هذا الشعب الذي أثبت ويثبت، حربًا وسلمًا، أنه عظيم بلا حدود. وعليه، فأنه لا يمكننا تصوير أن الشعب الذي أبدع الأبجدية والدولاب والشراع والنوته الموسيقية والقوانين والشرائع والعلم والفن والفلسفة … هو شعب قاصر غير قادر على صيانة وجوده ومصلحته وحماية وطنه والسير ارتقاءً من قمةٍ إلى قمة وهذا يتطلب:
1- بناء وتعزيز وتصحيح اتجاه الوعي القومي عند المواطن ليكون الولاء كله للمجتمع وليس للطائفة أو العرق أو العائلة أو الذات الفردية، وذلك على أساس الوحدة الاجتماعية الموحّدة الجامعة لمصالح ملايين السوريين انطلاقًا وتطبيقًا لمبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي التي أثبتت عمليًا نجاحها وقدرتها على توحيد صفوف السوريين نحو غاية واحدة هي عزّ الأمّة وتقدّمها وتساميها.
2- تدريب وتمكين المواطن على ممارسة الحرية بما هي فعالية دافعة وحافز حيوي لتحقيق الأفضل للمجتمع وترجمة ذلك، فعلاً وسلوكًا، في مجالات العلم والإعلام والتربية، واعتبار حرية الرأي الهواء النقي الذي نتنفسه ضمانًا لحقنا ونمونا واستمرارًا لتقدمنا، مع لفت الانتباه إلى أن الحرية مسؤولية تجاه الذات والمجتمع، إنها نظام فكري وأخلاقي كامل، والتنبه لمعنى الحكمة “الفوضى لا تحارب بالفوضى بل بالنظام، وأنّ النظام يحارب بنظام أفضل منه” “وأن مشكلة الحرية تحلّ بالحرية”.
3- اعتبار أمراض الحكومة وإدارة الدولة انعكاسًا أمينًا لأمراض وعلل الشعب، فلا يمكن إصلاح مؤسسات وقطاعات الدولة إلا بإصلاح العلة في أهلها، فالتركيز يبدأ بإصلاح إنساننا وتأهيله ومراقبته ومحاسبته ومكافأته عند القيام بواجبه.
4- تطهير إدارة الدولة من الرشوة والفساد والتحكّم، واعتبار الكفاية الأخلاقية والكفاءة العلمية والخبرة، القواعد الأساسية اللازمة لتولّي كل وظيفة عامة أو خاصة.
5- تشكيل لجان متخصّصة ومسؤولة للنظر في تحديث القوانين وإعادة النظر في الدستور على قاعدة أن التشريع وُجد لخدمة مصلحة الإنسان- المجتمع. وأن المجتمع النابه هو الذي يطوِّر وسائل التحقيق الأمثل لحياته وفي طليعتها التشريعات التي يجب أن ترافق نموَّ الحياة لا أن تكون قوالب جامدة.
6- “فصل الدين عن الدولة، وإزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب ومنع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين.”
7- “إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمّة والدولة.”
8- تخطيط سياسة اقتصادية قومية ترتكز على الوحدة الاقتصادية في البلاد السورية (سورية الطبيعية) وضرورة قيام نهضة زراعية – صناعية – تجارية – خدمية على مستوى شامنا العزيزة.
9- القضاء على الاحتكار ومافيات السوق المتاجرة بخبز الشعب وعرقه وجعل مبدأ سيادة القانون المبدأ الأعلى المعتمد لمراقبة ومحاسبة كل المخلِّين بمصالح المواطن، معتبرين من الحكمة القائلة: “يتساوى العامل والخامل في الهدم ولا يتساويان في البناء.”
10- “إعداد جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمّة والوطن.”
11- اليقظة والتنبه الدائمان لقضايانا المصيرية، وفي مقدمتها قضية جنوب سورية-فلسطين بالعمل على تحصين جبهتها الداخلية، تمهيدًا واستعدادًا، لمواجهة عدوّنا الأوحد اليهودية العالمية وحلفائها، ولنتذكّر ونعمل دائًما بمضمون المقولة – المشعل “إنّ إنقاذ فلسطين هو أمر لبناني في الصميم، كما هو أمر شامي في الصميم، كما هو أمر فلسطيني في الصميم. إن خطر اليهود هو خطر على سورية كلها، هو خطر على جميع هذه الكيانات”.
هذه بعض القواعد التي يمكن اعتمادها لبناء حياة أفضل”لسوريا المتجدّدة” التي تستحق منا كل محبة والتزام وولاء، لتعود إلى دورها الطليعي الرائد فتشعّ منها أنوار الفكر والفضيلة والعدالة والديموقراطية كما شعّت قديمًا من حواضرها الثقافية ومدنها البحرية على العالم كله.
المركز في 1-5-2012
عميد الإذاعة
الرفيق حسن الحسن