محاضرة بعنوان القومية الإجتماعية وتحديات العصر

الأزمة الاقتصادية العالمية من وجهة نظر الاقتصاد القومي الاجتماعي

شهدت بداية النصف الثاني من العام 2007 أزمات مالية لم يشعر بها سوى المطّلع على دقائق الأمور الاقتصادية الجارية في عالم التمويل والمصارف. ولم تُعطَ هذه “الهزات” حقّها في الدراسة والمعالجة.

أما الحادث الأكثر بروزًا فكان إعلان إفلاس مصرفين في الولايات المتحدة الأميركية في آذار 2008، لتبدأ حملات الإنذار الجدّي من خطر الوضع المالي والمصرفي في الولايات المتحدة الأميركية على اقتصاد دول العالم. وبدأ التحذير من أزمة اقتصادية شبيهة بأزمة 1929. وما حدث مؤخرًا منذ إعلان إفلاس بنك ليمان بروذرز وحتى بداية تدهور الأسواق نهاية أيلول الماضي، ما كان يجب أن يكون صدمة للأسواق المالية العالمية لو لعب الإعلام الموّجه الشفاف دوره بابراز المخاطر، كما يسوّق الإعلام الموّجه المدفوع من القوى العظمى متى أراد التسويق لحملة كاذبة لا أساس لها من الصحة  ولا تمت للواقع بأية صلة.

الأكيد أن ما يحدث الآن سيكتب عنه محاضرات وكتب ومجلدات وتحليلات وحقائق قد تكون مخفية الآن ليأتي الوقت المناسب لنشرها وفقًا لمصالح المتضررين اليوم أو المستفدين غدًا.

يجمع المحللون اليوم أن السبب الرئيسي والمباشر لانفجار هذه القنبلة الموقوتة وما يسمى ب “Sub-Prime” هو أزمة عقارات بيعت بقروض طويلة الأمد لمستهلكين ذوي دخل محدود وبالتالي ليسوا “prime” أي ليسوا ميسورين بالقدر اللازم أو قادرين على تحمّل التسليفات التي حصلوا عليها. كما أن أسعار الفوائد ارتفعت من حوالي 1% إلى حوالي 5% مما اضطرهم للاستدانة من مصدر آخر لتسديد ديونهم بفوائد أعلى، ناهيك عن بيع المصارف تلك الديون عبر إصدارها بسندات والمتاجرة بها وتسويقها في بورصات العالم الأوروبي والخليجي والآسيوي، وانخفاض أسعار تلك العقارات لحدود دنيا نتيجة انخفاض الطلب وازدياد العرض بسبب إخفاق المديونين على التسديد. تدنت السيولة لدى المصارف وباتت عاجزة عن الالتزام بالدفع، وأصبحت ديونها أكبر من قيمة العقارات المرهونة لها. يضاف على ما تقدم وباختصار أن التسليفات التي منحت لم تراعِ أسس التسليف السليم من ناحية مدخول صاحب القرض ومصاريفه وقدرته على التسديد خلال فترة القرض.

برّر غياب الرقابة على المصارف وغياب دورالدولة في تنظيم الأمور بأن السوق المتحرر من القيود له وحده الدور في تحديد أسعار العرض والطلب. وبالطبع هذا يترك المجال لأصحاب الرساميل الكبيرة والمحتكرين والمافيات والكارتيلات الضخمة بإمكانيات التلاعب بالأسعار والفوائد ويسمح لهم بالتأثير على سنّ القوانين التي تتلائم مع مصالحهم الشخصية دون اعتبار لأي دور أو مصلحة للغالبية العظمى من المواطنين. أمّا الدولة فلا تتدخل كونها تتباهى بديمقراطية الاقتصاد الحر. فلماذا إذن تتدخل الآن لحماية مَنْ نَهَبَ الناس واستنفذ قدراتها وسخّرها لتكون سوقًا لمنتجاته؟ أم هي تتدخل للمحافظة على ما تبقى من نظامها الفاسد كمحاولة لإطالة عمره وإعادة البناء على مرتكزاته كونه يؤمن لها ما لا يمكن أن يؤمنه أي نظام “ديمقراطي” جديد؟

إن غياب الرقابة وانعدام الأخلاق والجشع بالربح السريع هو في أساس أزمة اليوم.

الدولة في مفهومنا هي “مؤسسة الشعب الكبرى”. فهي إذن لا تختصر بالمؤسسات الحكومية أو النظام القائم أو في حماية الرساميل الكبرى على حساب الغالبية العظمى. فنظام الأمر الواقع أو الحكومة أو الحكم ليست دولة. ولا مفر من أن تكون الدولة كمؤسسة كبرى لكل الشعب هي صمّام أمان لحماية كل الشعب.

وليس من المنطق أن تكون الرساميل الفردية هي الممسكة بزمام الأمور وأن تضع هي نفسها القوانين المالية والمصرفية وأن تكون هي نفسها المراقب على أعمالها في الوقت عينه. للدولة إذن مؤسسات حكومية ومصرفية ونقابية ومهنية واجتماعية وأهلية وأكاديمية متعاونة مع بعضها البعض في سبيل مصلحة الدولة ككل. الحكومات تأتي وتذهب والأنظمة تتطوّر لتتماشى مع عقد الحياة. فللدولة بهذا المعنى دور فاعل وأساسي في سنّ القوانين، والعمل على تطبيقها بشفافية، وفي الرقابة والمحاسبة، لتتحول الرساميل الفردية، إلى رسمال مجتمعي في خدمة تأمين مصلحة الدولة. وللدولة الحق في التدخل لحماية كل أفرادها من كل المستويات الاجتماعية دون تمييز. والرسمال المجتمعي يجب تقويته والعمل على نموه بأخلاق تكفل مصلحة الدولة كمظهر سياسي للمجتمع.

إن الأساس الصحيح الذي يبنى عليه اقتصادنا القومي الاجتماعي هو مصلحة الإنسان الكامل ـ المجتمع. لأن المجتمع هو مصدر كل القيم في الوجود وهو غايتها. وتحقيق مصلحته هو قياس كل جهد. مبدأنا الاقتصادي ينص على:”إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الأنتاج وإنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة”.

وموارد الإنتاج هي ثلاث: العمل، الأرض والرسمال. يعتبر العمل أهم موارد الإنتاج هو المصدر والغاية ومصلحته هي الخزان العام لكل الخير الحاصل من الطاقات المنتجة.

الأرض هي العامل السلبي في الإنتاج لأنها تحتاج للعامل الإيجابي (العمل). ويشمل هذا المورد كل موارد الوطن مما هو موجود على اليابسة أو تحتها أو في الجو.

الرسمال يُعتبر العامل الوسيط ويشمل كل ما يستعلمه الإنسان في علمية الإنتاج وله الدور في تحسين الإنتاج كمًا ونوعًا.

إنّ ما نودّ التركيز عليه في ما تقدم بالنسبة لعنوان المقال هو أمرين: أهمية الإنتاج في اقتصادنا القومي الاجتماعي. فالإنتاج هو الأهم. أما التجارة، فبالرغم من أهميتها العظيمة في سد حاجات المجتمع، إلا أنها لا تحميه من الآثار السلبية لتقلبات الأسواق. والأزمة الراهنة خير برهان.

والأمر الآخر هو أهمية الرسمال، وأهمية العمل على نموه بضوابط لتحويله إلى رسمال مجتمعي يكون للأفراد القيّمين عليه واجب توظيفه بما يناسب مع إنصاف العمل وصيانة مصلحة الأمة والدولة.(لمزيد من الاطلاع، راجع شرح حضرة الزعيم للمبدأ الإصلاحي الرابع وكتاب “رسالة من رسالة” للرفيق جورج عبد المسيح.)

إن سقوط الأساس العقدي للاقتصاد الشيوعي والإشتراكي والرأسمالي والنيوليبرالي، تم التحذير منه مرارًا كون ما يبنى على باطل فهو باطل. وإذا كان الاقتصاد هو علم وفن لسد حاجات المجتمع المادية والروحية، فإن الزعيم قد أرسى أسسًا جديدة لبناء اقتصاد سليم قابل للتطور مع تطوّر المجتمع وتعقيداته الحياتية. أما نظام العولمة الذي بشّرونا به كبديل لنظم اقتصاد الدول القومية، فقد سقط سقوطًا مدويًا، وكاد أن يسقطنا معه أكثر لو طال زمانه ودخلنا “جنانه”!!!!

2008/10/26                                                هـشام مجاعص

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *