بيان المكتب السياسي المركزي

حالتُنا الداخلية تجاه بعض قضايانا الخارجية

“الزوبعة”، العدد 79 في 12 آب 1944

بينما المجموع السوري اللاقومي الواسع في القطر الأرجنتيني غارق في خَضَمِّ أغنياء هذا الجيل الذليل، منصرفون على مادياتهم ومنهمكون بالإكثار من البهرجة لأغراض الفردية الحقيرة ومنشغل بالعداوات والنكايات الشخصية وبينها الخارجية الباطلة. وبينما الحركة السورية القومية الاجتماعية تصارع، صراع المستميت، مفاسد هذا الجيل وتحارب بكلّ قواها المطامعَ الأجنبية في وطننا من غير أن تلاقي التقدير والتأييد الضروريين لإنجاح قضية أمّتنا ووطننا- بينما كلّ ذلك يجري في أوساطنا المنتشرة خارج سورية وفي وطننا عينه حيث تُباع حقوقُ الأمّة ومصالحُها بوظائفِ الاستعباد يستولي عليها الذين يدوسون شرف قوميتهم بأقدامهم لينحنوا أمام الحكام الأجانب انحناء العبيد، تجري في العالم أمور لها خطورة عظيمة في تقرير مسائل حيوية لكياننا القومي ومرامي نهضتنا وحياتنا القومية الاجتماعية.

من أهمِّ المشاكل الخطرة جدًا التي سنواجهها بعد هذه الحرب المشكل الصهيوني الذي صار خطرًا عظيمًا مداهمًا يهدّد بالقضاء على معظم آمالنا. إن مئات الفروع اليهودية المنتشرة في جميع أنحاء العالم المندمجة في المنظّمة الصهيونية تعمل عملاً واحدًا منظَّمًان وترمي إلى غاية واحدة واضحة هي: الاستيلاء على سورية كلّها وتحويلها إلى وطنٍ قومي خاص باليهود ينشئون فيه دولة يهودية ذات سيادة واستقلال.

وقد تمكنت المنظمة المذكورة، في أثناء الحرب الماضية، وبينما السوريون منقسمون إلى عثمانيين وحلفائيين، من اكتساب مركزٍ تجاه بعض الدول الكبرى، ومن الدخول، جبهة واحدة منظَّمة، في مسائل الحرب الماضية دخولاً جعل لها منزلة، وصيّر قضيةَ اليهود والوطنَ القوميَّ الذي رمَوا إلى انتزاعه، من القضايا التي استحقت أن يَنظُرَ فيها مؤتمرُ الصلح سنة 1919 ويؤيّد مطالبَ اليهود تأييدًا صريحًا في المعاهدة التي أقرّها ذاك المؤتمر. وفُتحت أبواب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، التي هي أوّل قسم من سورية يريد اليهود ابتلاعَه وتنظيم شؤونِهم واستعداداتِهم فيه تمهيدًا لابتلاع الأقسام الباقية، وأُوصدت في وجوه أبناء البلاد المهاجرين أبواب العودة، إلى وطنهم وأهلهم. صار اليهودي الغريب ذا حقٍّ في فلسطين يطالب به وخَسِرَ السوريُّ المولِدِ في فلسطين حقّه في وطنه.
وفي هذه الحرب العالمية الثانية اتسعت المناورات اليهودية وتدخلات اليهود الأنترنسيونية لتحقيق الغاية الصهيونية الرامية إلى انتزاع وطننا منا وتصييره ملكًا شرعيًا لهم.

وقد مكنتهم وحدتهم وخضوعهم لنظام واحد من اغتنام الفرص السانحة والاستفادة من إمكانيات واسعة. فاشتدّ تدخلهم في سياسة قضيتهم وفي سياسة أميركانية واستغلّوا اضطهاد الألمان وحلفائهم لهم في أوروبة ليطلبوا فسح المجال لدخول جماعاتهم الشاردة إلى فلسطين، وتمكنوا بالاهتمام المتواصل من إحراز قسم غير يسير من مطاليبهم، فدخل فلسطين عشرات ألوف اليهود. وسنرى نحن السوريين، أن اليهود الذين دخلوا بلادنا وتوغلوا فيها في أثناء هذه الحرب يزيدون على بضعة عشر ألفًا. وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا إن اليهود في فلسطين سيكونون عند نهاية هذه الحرب أكثر عددًا من السوريين في فلسطين وفي حالة تمكِّنُهم من المطالبة بالاعتراف بالدولة اليهودية في جنوب سورية.

اهتمّ اليهود، في هذه الحرب، بإحراز أشياء أخرى غير إكثار عدد اليهود الداخلين إلى جنوب سورية. ومن الأمور الجوهرية التي اعتنوا بها عناية كبيرة تأليف جيش يهودي يحارب مع جيوش الأمم المتحدة ويمارس أساليب الحرب الحديثة، وقد ألحّوا بإيجاد جيش يهودي مستقل بقيادته وأركان حربه لا يَأمُر عليه إلا قادة منه. ومع أنهم لم ينالوا هذه البُغية التي تعادل الاعتراف بهم دولة قائمة، فقد فازوا بتأليف الجيش اليهودي وتخويل الفرق اليهودية رفع العلم اليهودي في المواقع التي تحتلها في شرق المتوسط، وفي السنة الماضية وقع نظرنا على صورةٍ مُرسلة من جزيرة قبرص نشرتها جريدةٌ في هذه البلاد تمثل جنديًا يهوديًا قائمًا على المراسلة في هذه الجزيرة السورية وفوقه علم النجمة اليهودية!.

والآن يجتهد زعماء المنطقة الصهيونية لبلوغ غاية لا تقلّ خطورة عمّا تقدَّم، ألا وهي أن يكون لليهود تمثيلٌ رسمي في مؤتمر الصلح المقبل، يعرض فيه قضية اليهود ومطالبهم ويطالب بتحقيق غايتهم وبنصيبهم من الاشتراك في هذه الحرب.

وفي هذا الصدد وقفنا مؤخَّرًا على برقية لشركة “رويتر” صادرة عن نيويورك في 14 يوليو الماضي وفيها أن الرئيس المنتخب حديثًا للمؤسسة الشاملة ليهود بولونيا صرح لأحد مراسلي الشركة الإخبارية المذكورة قائلاً: سيُعطى اليهود مركزًا بين ممثلي الأمم المتحدة حول طاولة مؤتمر الصلح”.
لم نجد لهذا التصريح الخطير تأييدًا من مصدر مسؤول في أمّة من الأمم المتحدة. ولكنه يدلّ على مبلغِ اهتمام اليهود بهذا الأمر الخطير وشدّةِ سعيهم لتحقيقه. وإذا فازوا به كان ذلك من أشدّ الأخطار تهديدًا لسورية ووحدتها ومستقبلها.

في أول خطاب ألقاه الزعيم في الوطن بعد عودته من المغترب، وكان ذلك في أوائل 1933، وفي حفلة افتتاح نادي الطلبة الفلسطينيين في الجامعة الأميركانية، قال إن سورية تواجه خطرين: الواحد في الجنوب والآخر في الشمال. الأول هو الخطر اليهودي والثاني الخطر التركي. وكان الزعيم أول سياسي سوري شَرَحَ وضعيّةَ سورية هذا الشرْحَ، والأيام تُرينا صدقَ نظرته وصواب رأيه وحُسْنَ خطّته.

الخطر اليهودي على سورية يستفحل، وبعد هذه الحرب سيكون شديد الوطأة وصعب الردّ. والخطر التركي أيضًا يقوى ويستفحل، فإن المطامع التركية تتجه إلى سورية أوّلًا، لأنّ سورية مجزّأةٌ ومفكَّكةُ الأوصال ويسهل التلاعب بمآرب فئاتها اللاقومية العاجزة.

إنّ حالة سورية بعد هذه الحرب ستكون صعبة جدًا، والذين يتغنون الآن “باستقلال” لبنان والشام هم على ضلال.

لا إنقاذ لسورية ولا شقّ طريق لحياتها وارتقائها إلا بالحركة السورية القومية الاجتماعية ومبادئها ونظامها. فهل يستيقظ وجدانُ الغافلين ويُقلع أصحابُ الغوايات عن النكايات والمماحكات الشخصية ويحوّلون قواهم للقيام بمجهود قومي واحد تذوب فيه العنعنات والعنجهيات ولا يبقى إلا الإرادة الاجتماعية أن نحيا وندافع عن وطننا وحقنا؟

ألا يريد أغنياؤنا أن يفهموا أن ميدان الحركة السورية القومية الاجتماعية هو الميدان الذي يليق أن يتباروا فيه بالسخاء والغيرة، فسيكون شرفًا لا يمكن أن يكسبوه بتلك التبرّعات المرائية التي يبذلونها للحكومات والبلدان العديدة من أجل الشهرة الشخصية أو من أجل زيادة منافعهم المادية؟

إنه لا يزال في إمكاننا أن نعدِّل مجرى الأمور لمصلحة أمّتنا وحياتها ومستقبلها، والخطة لذلك مرسومة، ولكن ينقصنا شيءٌ جوهريّ هو: أن نلبي الواجب دائمًا ونخضع للنظام دائمًا. هو أن نسحقَ محبةَ ذواتِنا ونحيي محبةَ جنسنا ووطننا.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *