الحزبية الدينية لعنة الأمّة

  قد اتضح لنا من سياق المقالات السابقة، أن بلية الأمة العظمى، هي الرجعية الاجتماعية والسياسية، بعقليتها الاتكالية المستسلمة المستمرة في خطط التفكير الانحطاطي،

 وفي قضايا الحزبيات الدينية والمصالح الخصوصية والسياسة القبلية والعائلية، وإن التفكير الرجعي الجديد ليس سوى محاولة لإنقاذ قضايا الرجعية ومصالح الرجعيين القائمة في استمرار الرجعية وأهدافها وان هذا التفكير الرجعي الجديد يخبط في العلم ويسفسط سفسطة صارخة في المعرفة والرأي، فيسمخ مبدأ القومية الصحيح ويحوله عن مدلوله الحقيقي إلى مفهوم عقلية السياسة الدينية ومفهوم الغايات الخصوصية، ويشوه المذاهب الاجتماعية التقدمية ويتخذها مطايا للرجعية الاجتماعية ووسيلة للإبقاء على الانحطاط الاجتماعي، وعلى التفسخ القومي بين انعزاليات خانقة، واتحاديات مضيعة ملاشية.

إذا كانت مهمة الرجعية الجديدة، الإبقاء على الرجعية والاستمرار في خطط النفسية الرجعية باتخاذ مظاهر تقدمية واقتباس شكليات التفكير التقدمي فإن مهمة التفكير التقدمي الصّحيح، تفكير الحياة الجديدة، والقضايا، الصحيحة والمثل العليا الجميلة، الخروج بالمجتمع من الرجعية وقضاياها وأساليبها وخطط تفكيرها القديمة والجديدة والقضاء على الرجعية بكل أسسها وأشكالها والأخذ بمبادئ الحياة الجديدة، حياة العز والخير وعلى النتيجة التي تسفر عنها المعركة الدائرة بين التقدمية الهجومية والرجعية الدفاعية، يتوقف مصير الأمة، مصير الأجيال المتعاقبة. إلى العز أو الذل.

المعركة لتقرير مصيرنا القومي تدور منذ نشأة الحركة القومية الاجتماعية وظهور تعليمها التي تضع أساسًا جديدًا لبناء اجتماعي جديد متين جميل، وتقيم نظامًا جديدًا لجيل يحارب الرجعة ويتركها لمصير الظلم والتعاسة الذي تطلبه، ويشق للأمة طريقًا إلى الحياة المجيدة، إلى مصير العز والسعادة. والمعركة تزيد احتدامًا بعد كل خطوة تقوم بها الحركة القومية الاجتماعية في سيرها نحو مصيرها التقدمي، دافعة قوى «القوميات» الدينية والاجتماع الطائفي العشائري نحو مصيرها الرجعي الانحطاطي.

تستمد الرجعة البغيضة حيويتها وتفكيرها من الطائفية، من الحزبية الدينية الملتصقة بالأمة كأنها لعنة تعمي بصيرتها وتضلها. فالأحزاب السياسية الرجعية تنشأ من الطوائف على أساس الحزبية الدينية، ثم تحاول العقلية الرجعية الجديدة إكساب تلك الأحزاب أشكالاً «قومية» تخدع الحسني النية من الطائفيين بالتظاهر بالابتعاد عن الحزبية الدينية وتغش الشعب والرأي العام بسفسطاتها «القومية» و «الوطنية» التي تقيم لكل حزبية دينية «قومية» تعصبها وتناقض «قومية» غيرها.

إن أعظم تفسخ وتفكك تصاب بهما أمة من الأمم هما التفسخ والتفكيك الناتجان عن تحويل الطوائف إلى «أمم» بالمعنى الحرفي، وتحويل الحزبيات المتعددة إلى قوميات تتضارب في الأهداف بين انفصالية انعزالية ضيقة، تقلصية، خانفة واتصالية اتحادية منفلشة مشتتة ومضيعة. وإن أغرب سفسطة من سفسطات الرجعية الجديدة هي محاولتها التوفيق الظاهري، الشكلي بين «قوميتين» رجعيتين بإنشاء «القومية المتراوحة» التي يمكن أن تكون مدة تقلصية ومدة أخرى انتفاخية، كأن تقول «حزب بيروتي»، قومي لبناني، عربي» حزب، عربي، قومي، إنساني» أو «حزب عربي، قومي، لبناني» أو حزب لبناني، قومي عربي» وتضاف إلى هذه «القومية المتراوحة» كل النعوت التي تنتحلها الرجعية الجديدة وتحولها إلى «موضة دارجة»!

من الأمور التي تصعق العقل السليم: أن يبرز عالم وأديب من علماء الاجتماع الرجعي وأدباء التفكير النايورجعي فيؤلف كتابًا أو يكتب مقالاً أو يلقي محاضرة في أضرار الطائفية ويخلص في معالجة هذا الداء الفتاك إلى القول بوجوب الإخلاص «للأوطان» و «القوميات» التي أنشأتها الطائفية أو أنشأتها الإرادات الأجنبية للطائفية منعًا للشباب الجديد من الاتجاه نحو الوطنية الصحيحة والقومية الحقيقية الأصيلة التي لا يمكن أن تزول الطائفية إلا بالاتجاه إليهما!

إن علاج الحزبية الدينية بالدعوة إلى تأييد أهداف الحزبية الدينية السياسية هو علاج علماء وأدباء ممخرقين فلا يقضى على الحزبية الدينية إلا بالقضاء على عقليتها وطرق تفكيرها، وعلى قضاياها الاجتماعية والسياسية من «وطنية» و «قومية». عبثًا يطلب الأدباء المرضى بالطائفية محو الطائفية بالدعوة إلى أهداف سياسية طائفية وإلى «القوميات» الاصطناعية التي ولدتها العقلية الرجعية بتفكيرها النايورجعي.

إن في البلاد تضاربًا في الأهداف وتصادمًا في الحزبيات الدينية وقضاياها الرجعية. وهذان التصادم والتضارب يسببان نفيين وأكثر. ولكن غرض النفيين ليس ما صورته العقلية الشرقية بشكليتها الغربية من أنه «رفض الغرب رفض الاستعراب» بل هو رفض كل من الحزبيتين الرئيسيتين أهداف الحزبية الدينية الأخرى «القومية» والسياسية! فماذا تفيد الأمة إلى رفض التعصب الديني وقبول التعصب لأغراض التعصب الديني؟!

لا يكون التخلص من الحزبية الدينية إلا بالتخلص من قضاياها «القومية» السياسية والحقوقية فمحاولة محو لفظة «التعصب الديني فقط مع الإبقاء على كل قضايا التعصب الديني وأهدافه، اعتقادًا بأن العلة هي في اللفظة لا في المبدأ وقضاياه، هي محاولة نايورجعية إنحطاطية باهرة بقدر ما هي عقيمة!

إن «القومية» الطائفية و «الوطنية» الطائفية و «الحرية» الطائفية و «التقدمية» الطائفية و «الإصلاح» الطائفي و «المثالية» الطائفية والمحبة الطائفية و «الدولة» الطائفية و «الحكم» الطائفي و «اللاطائفية» الطائفية وبقية قضايا الحزبيات الدينية والتعصب الديني لا يمكن أن تقضي على الحزبية الدينية والتعصب الديني، بل بالعكس، هي قضايا تحيي الحزبية الدينية وتذكي التعصب الديني وتقتل الأمة وتخرب الوطن!

القضاء على التعصب الديني ومحو لعنة الحزبية الدينية يكونان بالاتجاه إلى الأرض وترابط جبالها وسهولها بأنهرها وإلى الشعب بنسيجه الدموي وتفاعله اليومي في الحياة مع الأرض- بإدراك أن الحزبية الدينية تصرفنا عن واقع الوطن وتشوه حقيقة الأمة.

الحركة الوحيدة التي قضت على الحزبية الدينية ومحت التعصب الديني من صفوفها هي الحركة التي استمدت وجودها من الأرض والشعب بكل ملله وطوائفه- الحركة التي سارت بالمحبة للأرض والشعب- للشعب كله، بجميع فئاته المتقدمة والمتأخرة المتعلقة والجاهلة، المثقفة وغير المثقفة.

هذه الحركة هي الحركة القومية الاجتماعية.

أما التكتلات والتشكيلات التي نشأت من بعض أجزاء الشعب- من الطائفية- معلنة المحبة ومبطنة البغض والحقد فهي تحمل لعنة الحزبية الدينية التي تسير بها «وبقومياتها وأوطانها ومثاليتها وحرياتها إلى القبر!»

الحركة القومية الاجتماعية هي حركة صراع لأنها حركة حرية، وحركة انتصار لأنها حركة حق. الويل للحركات الطائفية من الحركة القومية الاجتماعية والويل لتكتلات الأحقاد من حركة الحرية والواجب والنظام والقوة!

جريدة «الجيل الجديد»، العدد 13 في 21 أبريل 1949

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *