إثر حدوث الانفجار الذي أودى بحياة رئيس وزراء لبنان الأسبق المرحوم رفيق الحريري والنائب باسل فليحان ومرافقيهما وبعض المواطنين، أعلنا إدانتنا وتجريم من شاركوا في عملية الاغتيال، دفعًا وتخطيطًا وتنفيذًا… كما أعلنا رفضنا واستنكارنا كلَّ أشكال الاغتيال السياسي والجريمة بشكل عام.
ويومها قلنا إنّ مَن خطّط للجريمة النكراء كان يهدف إلى تقديم ضحية كالمرحوم رفيق الحريري لها وزنها وتأثيرها على الساحة اللبنانية والإقليمية والعربية والدولية، للوصول من خلال ذلك إلى:
1 ـ تنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 1559 لعام 2004 الهادف إلى فصل المسار اللبناني عن المسار السوري ودقّ إسفين في العلاقة الطبيعية بينهما لِتَستمر مفاعيل سايكس ـ بيكو وتقديم ما يخدم العدوّ اليهودي.
2 ـ وضع الشام ولبنان في مهبّ العاصفة القادمة من الولايات المتحدة الأمريكية إلى منطقتنا لتنفيذ مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي بدأ بغزو العراق عام 2003 لتمسي منطقتنا كلها، تحت تأثير “الفوضى الخلاقة” دائرة في فلك الولايات المتحدة الأمريكية المدارة يهوديًا.
3 ـ إنزال المقدّس “سلاح المقاومة” إلى التداول. فتُمسُّ قداسته وتنتهك حرمته من قبل من لم ينل شرف مقاومة العدوّ اليهودي ويحيا كرامة وعزّ التحرير فيدعو إلى طرح سلاح المقاومة للتداول.
هذه كانت رؤيتنا للحدث. وهذا ما حدث وعاناه وعاينه اللبنانيون وشهده العالم أجمع. كما أصدرت في حينه عمدة الإذاعة في الحزب السوري القومي الاجتماعي بيانًا قالت فيه:
“يوم انطلقت وتعالت الأصوات من مصادر متعددة، وبخلفيات متباينة تتهم جهات في لبنان وخارجه وتطالب بكشف حقيقة الاغتيال من مخططين ومدبرين ومشاركين ومتواطئين. أعلنا وبكل صراحة أنه لا يمكن أن يقف مخلص ضدّ أي تحقيق يؤمّن الوصول إلى حقيقة عملية الاغتيال، فكثيرون هم المخلصون الذين يريدون الوصول إلى هذه الحقيقة في لبنان وخارجه. ولكن هذا الإخلاص يتطلب حصانة عقلية تخفف من جموح الانفعال، وإن كان هذا الانفعال حالة طبيعية أولى تحصل على إثر حادث جلل كاغتيال الحريري أو غيره، إلاّ أنه لا بدّ للمنفعل بعد هذا الطور أن يخرج من حالة الانفعال ليعود إلى الحالة الطبيعة العقلانية الواعية التي تسمح له بالتدقيق الهادئ الباني، وأن يتخطى مفاعيل الحادث ونتائجه على حياته في محيطه، لا سيما إذا كان المنفعل ممن يتحملون مسؤوليات عامة.”
ولكن من غير الطبيعي وغير المنطقي أن تستمر حالة الانفعال هذه وتعم الأوساط لتتعدد التحليلات والأقاويل حول الحادث وتداعياته، وتنتشر التصوّرات والسيناريوهات حول مجرياته كأنها صادرة عن أبرع المحققين وخبراء الأدلة الجنائية، وتتكاثر احتمالات الأحكام القضائية حتى لنظنّ أنها خارجة من إضبارات أرفع القضاة مقامًا ورتبة.
وأكدنا أنّ من أولى وأهم نتائج هذه الحالة أن يعم إرباك يقود أفكار وأعمال المربكين، وأن تسهم في بناء حدٍ بعيد بتشكيل الجو الذي تجري فيه عملية التحقيق وما سيصدر عنها من نتائج. وكانت قد سبقت عملية الاغتيال وحالة الانفعال التي تبعتها، حملة مبرمجة تتناول كل مؤسسات الدولة اللبنانية، وفي طليعتها القضاة والأمن اللبنانيين، مطاولة تقصيرهما عن القيام بواجبهما، الأمر الذي تستغله جهات تجهد في جو الارتباك المشهود، لتدفع باتجاه تدويل الجريمة، وربما كان لهذه الجهات التوجيه البارز في تلك الحملة.
وقلنا: إن كل تصرف انفعالي أو حاقد لا تصيب شظاياه دائرة ضيقة محدودة، بل تتطاير عشوائيًا لتهدم مقومات أساسية للاستمرار والنهوض في حياة الشعب.
وبعد أن وصلت الأمور في التحقيق الدولي إلى ما وصلت إليه، من حقنا بل ومن واجبنا أن نطرح مجموعة من الأسئلة والتساؤلات، بدأت الصحافة المحلية أو بعضها على الأقل يطرح قسمًا منها.
إشارة إلى أننا قد نشرنا على موقعنا الإلكتروني (القومي) رأيًا عن تجارب أمّتنا ومعاناتها مع رجال التحقيق الدولية في ظروف مختلفة، بُعَيْدَ الحدث عن النية في تشكيل لجنة تحقيق دولية لكشف ملابسات جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ذلك من أجل أن ننبه أصحاب الشأن من الداخل للابتعاد عن مثل تلك المطالبة لأن في ذلك تسليم “ذقننا” لمن عهدنا فيه أنه لا يريد الخير لنا، وفي إشارة واضحة إلى أن قضاءنا في لبنان يبقى هو الضامن وإن عثر، بينما قضاء الغير يحقق مصالح الغير وإن أصاب.
وإذا كان الإصرار على كشف حقيقة الاغتيال مطلبًا وطنيًا عامًا، فهل من الحتمية أن نعلن مسبقًا
أننا نقبل ما تقوله اللجنة أو ما يتسرب عنها، حتى ولو افتقر إلى أسانيد ثابتة وواقعية؟
أننا نقبل ما تقوله اللجنة أو ما يتسرب عنها، حتى ولو افتقر إلى أسانيد ثابتة وواقعية؟
وتساءلنا: ألا يشكل مثل هذا الإعلان جواز مرور لكل الاحتمالات، إنْ للذين يعملون على تصفية حسابات من الداخل، أو للذين يعملون على تجيير كل حدث لصالح مخططاتهم التي تستهدف المنطقة برمتها؟
وإذا كانت مسلمة كشف الحقيقة هي جامع الكل، وهي كذلك، أَفما كان من الأجدى والأفضل والأنفع والأسرع والأوفر جعل القضاء اللبناني على رأأاااااااالبأس آلية إجراء التحقيق والاستعانة عند الضرورة، بل من الضرورة الاستعانة، بأكفّاء من العالم العربي أولاً ومن الدول الصديقة ثانيًا، فنكون نحن من يختار بمعرفتنا الدقيقة للمختار كي يساعدنا، ونبقى نحن أسياد أحكامنا بعيدًا عن تدخلات مريبة من أطراف متعددة كل منها يرمي إلى تحقيق أغراض من خلال الاغتيال وتحقيق الدول؟
ثم تساءلنا: كيف يمكن أن نسبغ صفة الثقة المطلقة، إن لم نقل القدسية، على لجنة التحقيق، والتجارب الماضية القريبة في العراق وجنين وقانا وغيرها… لا تؤمن حالة مشجعة.
ألم يقدم رئيس فريق اللجنة الدولية إلى العراق تقريرًا يؤكد وجود أسلحة دمار شامل في العراق، أثبتت بطلانه الوقائع الحقيقية؟
أولم يكن تقريره تضليلاً لتأمين الطريق أمام الولايات المتحدة وبريطانية لدخول العراق؟ وماذا كانت نتائج تحقيقات اللجنة الدولية في جنين بعد المجازر التي ارتكبها جيش دولة الاغتصاب هناك وعاينها العالم كله بواسطة وسائل الإعلام المختلفة؟ وما بالكم بمجزرة قانا التي ارتكبها العدوّ في حمى ومظلة ممثلي هيئة الأمم المتحدة؟ وهذه غزة، وما أدراهم ما يجري في غزة؟ وهل نفذت الدول المعنية مقترحات لجنة التحقيق الدولية في مجازر غزة؟
وإذا كان الأمر كذلك، أفلا يعني أن عناصر لجان التحقيق الدولية أو بعضهم على الأقلّ يفتقرون، إمّا إلى الصدقية أو إلى الكفاءة، وفي كلا الحالين ألا يفترض أن يكون لدينا، نحن أصحاب المصلحة في ذلك، ملف كامل عن أعضاء لجنة التحقيق، يتضمّن سِيَرهم الذاتية، خبراتهم، علاقاتهم، وارتباطاتهم، وما نراه ضروري في هذا المجال، كي نؤمن الأرضية الصالحة للنتائج التي قد تصدر عنها؟ فهل بين أيدينا مثل تلك المعلومات وهل الذين انتقوا أعضاء اللجنة يمكن أن يقدموا هذه المعلومات؟ وهل نحن في موقع سمح لنا بالتأكد منها أو رفضها؟ وإذا كان الجواب بالنفي، وهو الأقرب إلى الواقع، أليس من الأفضل الأخذ بمقولة التحقيق الداخلي، باستعانة مشروطة من الآخرين؟
ثم ألا يفترض للوثوق باللجان الدولية أن تكون صنيعة مؤسسة دولية مستقلة فعلاً تلتزم بمواثيقها، وتعمل على مساعدة الدول الضعيفة للخروج من أزماتها، أو أن تحميها من أطماع الغير والاستيلاء على مقدراتها؟ فهل هذه المؤسسة الدولية القائمة عمليًا “الأمم المتحدة” هي اسم على مسمّى؟
أليست “الأمم المتحدة” صنيعة الدول التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية كي تؤمِّن مصالحها الخاصة من خلال أجهزتها؟ أوليست هي اليوم أشبه بمؤسسة من مؤسسات الولايات المتحدة الأمريكية تفرض عليها ما تريد أن لم يكن بالإيعاز والاتفاق المسبق فبالضغط والتهديد؟ وإلاّ كيف تجاوزت الولايات المتحدة الأمريكية قرارات مجلس الأمن وغزت العراق؟
أيمكن أن يسري على أي إنسان عاديًا كان أم غير عادي، كذبة أن هيئة الأمم المتحدة هي هيئة مستقلة، وهو يرى بأم العين كيف أن الولايات المتحدة الأمريكية تملي شروطها على المنظمة الدولية وتهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا لم تخضع لإرادتها؟ وكيف تلتزم الولايات المتحدة الأمريكية مصلحة “إسرائيل” دولة الاغتصاب بامتياز، وقد تقدمها أحيانًا على مصلحتها لكأنها إحدى ولاياتها المنفصلة؟ فكيف لنا نحن أن نثق بهذه المنظمة، بخاصة فيما يتعلق بأمّتنا وعالمنا العربي؟ وكيف لنا أن نثق بلجان استبعدت في تشكيلتها الكفاءات الأفضل من لبنان أو من العالم العربي؟
ربما يسأل سائل لسبب أو لآخر: أيعقل أن نشكك في اللجنة وهي بعد لم تنجز تقريرها النهائي؟ إنه سؤال منطقي لولا أن بعض الوقائع قد يشكّل ما يدين اللجنة أو يشوّه حقيقة طبيعتها وممارستها التي يفترض أن تكون مجرّدة من أي توجيه خارجي، ومن أي إيحاءات، ومن أي تسريبات، ومن أي سلوك تحقيقي في اتجاه واحد، ومن خلفيات كشفت عنها بعض المصادر السياسية والإعلامية المحلية والإقليمية والدولية، اللهم إلاّ تلك التي تشارك الولايات المتحدة الأمريكية مخططاتها أو تلك التي تعمل مباشرة بأمرتها.
وقلنا يومها، إنه لأمر يحتم التشكيك: “كشف جوانب مهمة من التحقيق قبل الانتهاء منه”. “مؤتمرات صحفية تسلط الضوء على جوانب من التحقيق، وتفتح الباب واسعًا أمام المتعطشين لمعلومة كي يجيّروها لأغراضهم”. “تسريبات مقصودة تصل لبعض الأفراد أو بعض الدول، تكشف عن الخط الذي تسير فيه التحقيقات، لكأن الحكم صادر سلفًا”. “إعلان لائحة بأسماء من سترفع عنهم السرية المصرفية، ويتبين فيما بعد أن اسمًا ورد خطأ. أليس استهتارًا بمدارك الناس إطلاق مثل هذا التبرير؟ وهل الأمر بالبساطة التي حاولوا تمريرها؟. “وكان بوش يتجاوز الاتهام إلى التأكيد، وكذلك كانت كندوليزا رايس تصدر حكمها لكأن القرار صدر، ما يعني أنه صادر قبل التحقيق، وتريد الولايات المتحدة الأمريكية من خلال ذلك أن تعبد الطريق أمام تحقيق مخططاتها في المنطقة لصالح “إسرائيل أولاً”. ثم أن “موقعًا استخباريًا” “إسرائيليًا” يؤكد ما نفاه ديتلف ميليس: “ضباط كبار من “الموساد” قدموا لميليس في أوروبا معلومات حول الجريمة” و “أهم الصحف العدوة” “الإسرائيلية” “معاريف” و”يدعوت أحرنوت” و”ها آرتس”تكشف عن تسريبات من تحقيق اللجنة الدولية”.
فهل هذه لجنة تحقيق؟ و إذا كانت كذلك فأي أسلوب من أساليب التحقيق تتبع؟ إننا نعتقد أنها كانت لجنة تحقيق أغراض دولية في المنطقة !!!
أيها اللبنانيون
إذا كنّا نسلط الضوء على هذه الأمور فلأجل أن يبقى الكشف عن حقيقة الاغتيال في دائرة جريمة كبيرة مطلوب الكشف عن مدبّريها ومنفذيها، لا أن تصبح كما تبدو الملامح مسألة سياسية، فتفقد مرتكزها الحقيقي وأبعادها الإنسانية، وتصبح أداة لأغراض لا علاقة لها بالجريمة، بل لجعل لبنان كله تحت سيطرة لجنة التحقيق الدولية. هذا كان رأينا في لجنة التحقيق الدولية، وحقيقة التحقيق وما سينتج عنه. ولن يتغير رأينا في هيئة المحكمة الدولية عمّا أبديناه من رأيٍ في لجان التحقيق.
وحين تشكلت “المحكمة ذات الطابع الدولي” في 12. 11. 2006 باقتراح وصياغة من فرنسا وإسناد سعودي ـ مصري مع ثقل الولايات المتحدة الأمريكية وطلب من رئيس الحكومة اللبنانية السابق بطريقة الالتفاف على الدستور اللبناني وإدارة الظهر لمن أقسم على حماية وصيانة الدستور “رئيس الجمهورية اللبنانية” وتغييب للمؤسسة التشريعية اللبنانية “المجلس النيابي” الذي له وحده حق إقرار الاتفاقات الدولية التي تبرمها الحكومة اللبنانية ورئيس الجمهورية مع الدول والهيئات والمنظمات الدولية؛ حين تشكلت هذه المحكمة بعيدًا عن الشرعية وتنازل لبنان عن سيادته لهيئة المحكمة الدولية، سمعنا أصواتًا من بعض اللبنانيين “موالاة ومعارضة” تقول: “إن المحكمة أصبحت وراءنا”، فقلنا لهم: حذار. حذار أن تقعوا في خديعة المنظمة الدولية وعودوا إلى التاريخ يخبركم عن قرارات هذه المنظمة ! فلم يصدر عنها في يوم ما قرارٌ يحفظ حقوق شعبنا وأمّتنا. وأكدنا لمن التقيناهم من المعارضة اللبنانية أن المحكمة الدولية أمامنا وفي مواجهتنا كشعبٍ بغضِّ النظر عن موقع كلٍّ منا ولن تكون خلفنا، كما أنها لن تكون أفضل من لجان التحقيق الدولية. وأن أي قرار سيصدر عن هذه المحكمة الدولية لن يكون لصالح أو لخير أي لبناني، وإنما سيتطاير الشر من قراراتها ليطال كلَّ اللبنانيين ومنهم إلى الشام وتضيع القضية الفلسطينية. ولكن لم يعطِ من كنّا نحدّثهم أيَّ وزن لآرائنا. !!!
ويوم باشرت المحكمة الدولية عملها بمقرها في هولندا. قلنا أن موّال الشيطان قد بدأ، ولن يكون له نهاية !!! وأن المدعي العام لهذه المحكمة سواء أكان بلمار أو من سيتسلم بعده لن يكون همهم الوصول إلى حقيقة من نفّذ الاغتيالات في لبنان، بل سيكون الوصول إلى سلاح المقاومة الذي صدّ عدوان تموز.
ويوم أعلنت المحكمة الدولية قرارها بأن هناك شهودًا ليسوا ذوي صدقية وهي لن تأخذ بأقوالهم. قلنا إن هذه المحكمة بكلّ جهازها الإداري والقضائي وعلى رأسهم بلمار لن تكون أكثر مصداقية من أولئك الشهود الذين تقول عنهم إنهم “ليسوا ذوي صدقية” !!!
ويوم طلبت المحكمة الدولية من القضاء اللبناني إخلاء سبيل الضباط الأربعة لعدم وجود أي دليل على إدانتهم. فرحنا معهم ومع فرح ذويهم، ولكن وضعنا أيدنا على قلوبنا وقلنا إن المحكمة الدولية أخلت سبيل الضباط الأربعة ولديها ما يمكن أن يجرّ الشعب اللبناني كله إلى ما هو أخطر من التوقيف ! لكن “المعارضة اللبنانية” ليست في وارد السماع لآرائنا !!!
ويوم أعلن القاضي بلمار ـ المدعي العام في المحكمة الدولية ـ تبرئة “سوريا” من حادثة اغتيال الرئيس الحريري. قلنا لأصحابنا في “المعارضة”، عظيم هذه الإعلان ولكن نخشى أن يكون ما في السرّ أعظم.
نعم إن ما في سرّ بلمار وكاسيسي وأسيادهم أعظم، فقد كان لديهم في الأدراج قرار ظني و”إن بعض الظنّ إثم”، سيطال ما يقارب المائة والخمسين بطلاً من أبطال “المقاومة اللبنانية” لا قرينة مادية أو حسية تدينهم بل ظنونًا حول اتصالاتهم الهاتفية “قرائن ظرفية” ساعة تفجير موكب الرئيس الحريري. وطالبنا الجميع بعدم التعاون مع لجان التحقيق الدولية والوقوف بوجه أي قرار لا يقدم قرائن جرمية مادية ومحسوسة. وفي اعتقادنا أن القرار الظني إذا ما صدر فإنه لن يقف عند التحقيق مع المائة وخمسين رجلاً من رجال “المقاومة” بل سيشمل معظم اللبنانيين ممن هم في خندق المقاومة وفي صف “الممانعة” ليشمل ربما مائة وخمسين ألف وربما يصل إلى مليون وخمسمائة ألف وأكثر لينتشر وباء القرار الظني ويصل بعدها إلى الشام بطريقة الالتفاف عليها من خلال اتهام رجال “المقاومة”، وبالطبع فإن الشام ما تخلت يومًا، ولن تتخلى عن رجال “المقاومة” ولن تترك حلفاءها وحيدين في الخندق لأن قضيتهم قضية واحدة وعدوهم واحد. وهكذا سيكون القرار الظني بمثابة رمحٍ سيخترق صدر “المقاومة الوطنية اللبنانية” وينفذ إلى الشام من خاصرتها “لبنان” برمية واحدة. فتحبك الولايات المتحدة و “إسرائيل” خيوط مؤامرتهما وتمتد رياح عاصفة “الفوضى الخلاقة” لتتجاوز العراق إلى الشام ولبنان عبر حلقات الكذب والخداع. ففي العراق كانت كذبة “أسلحة الدمار الشامل”، وفي لبنان خداع “القرار الظني”، ومن الذي يستطيع أن يفصل بين المقاومة الوطنية اللبنانية والشام الممانِعة والعصية؟ فأهل الشام كلهم مع المقاومة وسندًا وحضنًا دافئًا لها.
وكم كان رئيس المحكمة الدولية كاسيسي خبيثًا، ومع المدعي العام بلمار، حين أخرجا قضية الشهود الذين لا يتمتعون بصدقية “شهود الزور” من مهمة المحكمة الدولية أولئك الشهود الذين قامت على أقوالهم فكرة “المحكمة الدولية” وفكرة توجيه الاتهام إلى الشام التي صممها منذ البداية بوش وشيراك ومبارك ـ سقط الاثنين بوش وشيراك. ولن تسقط “المحكمة الدولية” إلاً بعد أن يغادر الحكم الثالث حسني مبارك.
حين أخرج كاسيسي وبلمار قضية الشهود الذين لا يتمتعون بصدقية من مهمة المحكمة الدولية، ألقيت هذه المهمة على اللبنانيين لتكون سكينًا تعمل في جسم الدولة اللبنانية والمجتمع اللبناني تشريحًا وتجريحًا وتقسيمًا وسقوطًا في بحر السياسة اللبنانية المضطرب. وكان ذلك واضحًا حين وقع في بحر السياسة معالي وزير العدل المشهود له بالمهنية العالية فاقترح إحالة ملف “شهود الزور” إلى القضاء وليس إلى المجلس العدلي، والقصد من ذلك التسويف وإطالة الوقت الذي لن يكون لصالح أحدٍ في لبنان، وإلاّ لماذا قدّم معاليه هذا الاقتراح؟ أليس القضاء لإقامة العدل؟ وأليس المجلس العدلي لتحقيق العدالة؟ ثم ألم تكن قضية اغتيال المرحوم رفيق الحريري برمتها هي من اختصاص المجلس العدلي وبالتالي فإن كلّ ما يتفرّع عن هذه القضية وكل ما له مساس بها هو من اختصاص المجلس العدلي وصولاً إلى العدالة بأقرب وقت وإراحة اللبنانيين. ومرة ثانية وقع معالي وزير العدل في بحر السياسة حين صرّح بعد حادثة عيادة الدكتورة إيمان شرارة بأن لبنان وقّع على اتفاقية المحكمة الدولية وهو ملزم بالتعاون معها. وهنا ليسمح لنا معالي وزير العدل بأن نسأله: هل يحق لأعضاء المحكمة الدولية أو محققيها أن يخترقوا القوانين اللبنانية؟ وهل يرضى أو يقبل معالي الوزير أن يحصل أحدٌ على رقم هاتف زوجته أو أخته أو ابنته دون موافقة شخصية منهم أو بقرار قضائي صادر عن سلطة قضائية لبنانية؟ ونسأل معالي وزير العدل ما هو موقفه فيما لو استحصلت جهةٌ ما على رقم هاتف عقيلته دون علمها وتم التلاعب في اتصالاتها؟
وليسمح لنا معالي وزير العدل أن نسأله أيضًا هل تصرفات المحكمة الدولية ومحققيها على الأرض اللبنانية ملزمةً لجميع اللبنانيين؟ وما هو السند القانوني لهذا الإلزام؟ وهل قرار إنشاء المحكمة الدولية قد تم بناءًا على “معاهدةٍ” أم “اتفاقية” بين الأمم المتحدة والحكومة اللبنانية؟
طبعًا إن معالي وزير العدل يعرف جيدًا أنها ليست “معاهدة دولية” بين الأمم المتحدة والدولة اللبنانية لأنها فاقدة الشرعية والدستورية. فطلب إنشائها لم يقترن بتوقيعَيْ رئيس الجمهورية اللبنانية ورئيس الحكومة، كما أنها لم تعرض على المجلس النيابي اللبناني ولم يصادق عليها المجلس !!! أمّا إذا كانت “اتفاقيةً” بين الأمم المتحدة والحكومة اللبنانية وضعت تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة فهي أيضًا فاقدةٌ لركن أساسي من أركان الاتفاقات التي تجريها الحكومات، وهو توفر شرط إجماع الحكومة أولاً. وهذا لم يكن متوفرًا، فهناك خمسة وزراء كانوا قد تقدموا باستقالاتهم من الحكومة ولم يحضروا جلسة الحكومة التي وافقت فيها على اتفاقية إنشاء المحكمة الدولية، كما أن هذه الاتفاقية لم تقترن بمصادقة المجلس النيابي اللبناني الممثل الشرعي للشعب اللبناني وبالتالي فهي غير ملزمة لجميع اللبنانيين. وقد تبقى الاتفاقية ملزمة لمن وافق عليها من الوزراء ومن يمثلون من التنظيمات السياسية ومن وقّعها: “رئيس الحكومة اللبنانية السابق ووزير العدل في حكومته”. ويبقى من حق من لم يوافق من الوزراء على الاتفاقية ومن يمثلون من التنظيمات رفض كل ما يصدر عن هذه المحكمة الدولية. كما يبقى من حق جميع الأطراف التي وافقت فيما بعد على نظام المحكمة الدولية اعتراض قراراتها أو رفضها إذا رأت أنها قد انحرفت عن المسار والغاية التي أنشئت من أجلها وسلكت طريقًا يمسّ سلامة الوطن ويهدد وحدة الشعب اللبناني. فالحكومة اللبنانية السابقة الفاقدة للشرعية حينها أبرمت الاتفاقية مع الأمم المتحدة على إنشاء المحكمة الدولية فقط. أمّا نظام المحكمة الدولية فهو اتفاق جرى بين الأمين العام للأمم المتحدة والحكومة اللبنانية التي يبقى من حقها الاعتراض على نظام المحكمة أو طلب التعديل فيه ولا علاقة لمجلس الأمن في نظام عمل المحكمة الدولية أو توجيه مسارها.
أيها اللبنانيون
في كل الأحوال سواء أكانت المحكمة الدولية قد أنشئت بمعاهدةٍ بين الأمم المتحدة والدولة اللبنانية ـ وهي ليست كذلك أبدًا ـ أم بموجب اتفاقيةٍ بين الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة، تبقى في الحالتين غير دستورية لعدم اقترانها بمصادقة المجلس النيابي اللبناني الممثل الشرعي للبنانيين. وحين صادقت حكومتكم على “نظام المحكمة الدولية” كنتم قد تخليتم عن سيادتكم وسلمتم رقابكم لمن لا يريد خيرًا بكم. وثقوا أن بلمار وكاسيسي لن يكونا أفضل من ديتليف ميليس ولن يصلا، ولا يهمهما الوصول، إلى حقيقة من اغتال المرحوم رفيق الحريري، لأنهما يبحثان عنها في مكانٍ والمجرم واضح أمامهما في مكانٍ آخر وهما معه لغرضٍ آخر وفي الجهة التي تستهدف وجودنا أفرادًا وجماعةً ووطنًا وأمّةً.
لن يكون أمامكم حلاً إلاّ بوعيكم لحقيقة وجودكم شعبًا واحدًا تسوده المحبة والتسامح في وحدة حياة ووحدة مصير. وقررتم استعادة سيادتكم من مجلس الأمن وحريتكم من نظام المحكمة الدولية. واستجبتم ـ وإن كانت استجابتكم متأخرة ـ إلى دعوة الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله إلى مقاطعة المحكمة الدولية التي استباحت لبنان استباحةً كاملة أرضًا وكرامةً وعرضًا وقدمت كل ما حصلت عليه بغطاء المحكمة الدولية إلى العدوّ اليهودي.
إن استعادة السيادة اللبنانية هي مهمة الرئاسات الثلاثة التي أوكل الشعب إليها مهمة سلامة أرض الوطن وصيانة كرامة المواطن وعرضه:
أولاً ـ فمهمة فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان هي استعادة موقع ومقام وتوقيع الرئاسة الذي غيبته الحكومة السابقة ، وعليه أن يطالب الأمم المتحدة خطيًا بإعادة تصحيح المسار الذي سلكته في طريق إنشاء المحكمة الدولية حين أهملت دور رئيس الجمهورية ودور المجلس النيابي في التوقيع والتصديق على الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي يجريها لبنان.
ثانيًا ـ مهمة رئيس الحكومة اللبنانية السيد سعد الدين الحريري عقد اجتماع استثنائي وطارئ لمجلس الوزراء يدرس فيه جميع طلبات المحكمة الدولية ومحققيها التي لم تبقِ شيئًا من لبنان والمجتمع اللبناني إلاّ واستباحته مما يدلّ على أنها محكمةٌ مسيسة يتدخل فيها تارةً لارسن وتارةً السيدة كيلنتون وأخرى أبو الغيظ ولا ينفك عن متابعتها كوشنير وقادة حكومة العدوّ اليهودي مما يفقدها صدقيتها ومهنيتها ويبعدها عن الغرض الذي أنشئت من أجله.
ثالثًا ـ وتبقى المهمة الأخطر هي مهمة رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري وهي استعادة سيادة الشعب اللبناني التي تخلت عنها الحكومة اللبنانية السابقة لمجلس الأمن والمحكمة الدولية فيعرض أمر “الاتفاقية” على المجلس النيابي ويعلن بعدها للشعب اللبناني وللملأ بطلان أي اتفاقية لا تقترن بموافقة ممثلي الشعب أعضاء المجلس النيابي.
وهكذا تتحمل الرئاسات الثلاثة مسؤولياتها بتصحيح مسار المحكمة الدولية ويمكنها أن تحصل على الحقيقة التي يطلبها الجميع. ويستعيد لبنان سيادته وكرامته وشرفه ويتحقق أمن الوطن والمواطن ونكون أمام حقيقةٍ سامية هي حقيقة وجودنا مجتمعًا واحدًا في وحدة حياة ووحدة مصير. فليس أمامنا من خيارٍ آخر لنصبح على وطن.
في 30. 10. 2010 عضو المجلس الأعلى
الرفيق عبد القادر العبيد