«وفي الزرازير جبنٌ وهي طائرة وفي البزاة شموخٌ وهي تُحتضر»
هو شموخ الثامن من تموز عام 1949، النابع من الحرية والواجب والنظام والقوّة.
هو شموخٌ أذهل المتآمرين المتخفّين تحت جناح الظلام لاقتراف جريمتهم بحقّ سعاده والأمّة، الذي لا يزال حتى اليوم شعلةً تتناقلها الأجيال انتماءً واعيًا، وتمرّسًا بمناقب تضمن مصلحة الأمّة والشعب، رغم ضلال الكثيرين، ورغم حلكة ما يحيق بأمّتنا من أحوال ومكائد.
شموخٌ يحترم القانون، حتى عندما يكون القانون أداةً بيد من يتربّصون بالشعب، فيتجلّى «شكرًا» لجلّادٍ، ويكون انطلاقًا في درب الارتقاء الملتزم بالحقّ.
هو الثامن من تموز، شهر الاستشهاد على مرّ العصور السوريّة، من دوموزي إلى سعاده، لتحقيق ارتقاء الأمّة وخيرها وفَلاحها.
وفي الثامن من تموز هذا العام، تنبلج أمامنا بطولاتٌ يسطّرها شعبنا المنهَك بفعل المؤامرات، في فلسطين العزّة، وجولان الصمود، وجنوب لبنان الشموخ، ينزرع أبناؤها في أرضهم، أحياء وشهداء، يُثبتون أنّ «القوة هي القول الفصل في إثبات الحقّ القومي أو إنكاره»، قوة الحقّ حتى لو كان أعزل إلّا من الكرامة.
ففي فلسطين، يسطّر الأبطال مآثر بسالةٍ وعزّ في الصّراع المستمر مع العدوّ اللّئيم، ويصبح المطلوب من الجميع أعمالًا لا أقوالًا. ففي كلّ جولة يبتكر فدائيو فلسطين إبداعات في المواجهة، ممّا يصيب العدوّ بخسائر ذات شأن في حسابات ”جبهته الدّاخليّة“ الرّخوة. وفي كلّ مرّة يُظهرون إصرارهم الدّؤوب على استمرار التّصدّي للحملات العسكريّة الوحشيّة التي يشنّها جيش الاحتلال و”مستوطنوه“ المجرمون – وليس أولها ولن يكون آخرها محاولة اقتحام جنين، مقلع البطولة والعزّة، مطلع الأسبوع، وهي جنين التي نهضت بعد مجزرة 2002 – هذه الحملات الوحشية التي تتمّ أحيانًا كثيرة بـ ”التّنسيق الأمني“ مع ”السّلطة“، بغية اعتقال من أمكن من هؤلاء الأبطال وثنْي الباقين عن الاستمرار في العمل المقاوم، بالإضافة إلى تهديم منازل المقاومين الذين يمكن التعرّف على هويّاتهم، وتجريف الأراضي الزّراعيّة. كلّ هذا الإصرار بكلّ ما أوتوا من قوّة وبأس شديدين في مواجهة العدوّ الذي يريد اقتلاعهم من أرضهم، إذ أنّ اتصالهم به هو «اتّصال الحرب والنّار .. هو اتصال الأعداء بالأعداء»، وهو صراعٌ بين الحقّ والباطل، «صراع مستمرّ حتى تزيل إحدى القوّتين الأخرى». وكلّ ما يسمّى مساعيَ من أجل ”السّلام“، وما اصطلح عليه بـ”التّهدئة“ و”ضبط النفس“ ما هو إلّا هباء منثور وتقطيع للوقت للتّحضير للجولات اللاحقة.
في مقابل هذه البطولات، يشكّل ”التنسيق الأمني“، الذي تقوم به ”السلطة“ المتسلّطة، جريمة كبرى وطعنًا في ظهر الفدائيين وخيانةٍ لمصلحة الشعب والأمّة، ولن يرحم التاريخ المتخاذلين في الدفاع عن حقّ شعبنا في أرضنا في فلسطين. وقد حان الوقت لإدراك هذه الحقيقة والمشاركة جميعًا في القتال، من غزة إلى نابلس وجنين وكلّ مدينة وقرية في فلسطين، هذا القتال الذي ليس سواه ما سيحرّر أرضنا، فهذا العدوّ لا يفهم سوى لغة الحديد والنار، ولنا في جنوب لبنان مثالٌ على قدرة إنساننا على إذلال هذا العدوّ.
ويبرز التّطوّر التّكتيكيّ في تنفيذ العمليات وطريقة التّصدّي لهجمات الاحتلال، المترافق مع التّطوّر الإستراتيجيّ في ما سمّي بـ”وحدة السّاحات“. فهذه التّكتيكات كانت كفيلةً بإنزال الخسائر الفادحة في صفوف العدوّ حتى تصل إلى مستوى الرّدع الذي يحرم العدوّ غطرسته. وهذا ما ينطبق مع قناعتنا بـ«أنّ إنقاذ فلسطين هو أمرٌ لبنانيّ في الصّميم، كما هو أمرٌ شاميّ في الصّميم، كما هو أمرٌ فلسطينيّ في الصّميم». (سعاده، خطاب 2 آذار 1947).
ولا يتوانى العدوّ عن الإعلان، بغطرسته اللامتناهية وبلسان المسؤول الأوّل في حكومة الاحتلال، أنّ من يحلم بإنشاء دولة للفلسطينيّين، عليه أن يصحو من هذا الحلم، وهذا ما يعزّز دور المحور المناهض لهذه الدّعوات التّسوويّة وتأكيد الكفاح المسلّح طريقًا لإحقاق الحقّ وإزهاق الباطل. وتبقى الخطوات الثابتة التي تخطوها المقاومة في فلسطين، ورأس حربتها كتيبة جنين التي يحاول الكثيرون التآمر عليها، هي الطريق الوحيد لتغيير مسار نتائج الصراع في الميدان واستثماره لمصلحة الهدف النهائي لمعركتنا ضدّ عدوّنا.
أمّا في الشّام، فإنّ الأوضاع تصبح أسوأ من تردٍّ وتراجع في كافّة النّواحي الاقتصاديّة والحياتية اليومية وحتى الأمنيّة، فالدولار يقارب العشرة آلاف ليرة والسلع أغلبها إلى نفاد، والخدمات تكاد تنعدم وأخصّها الكهرباء التي أصبحت حلمًا، وكذلك الخدمات الصحية التي كانت شبه مجانية ومبعث فخر فتحولت إلى كابوس للمواطنين. أمّا في الوضع الأمني والعسكري فيبرز العناد الغربي في حماية ودعم ومحاولة إسباغ الشرعية على عشرات آلاف المسلحين المنتشرين في الشمال الغربي والشمال الشرقي، وفي محيط قاعدة التنف الأمريكية في الشرق، وحتى في المنطقة الجنوبية. وتكثر التسميات المدنية المرافقة لهذه التشكيلات ”الميليشياوية“ لتشكل واجهة للتفاوض وقبض الأثمان لصالح الدول الداعمة في أية عملية سياسية مقبلة، لولا بعض العمليات العسكريّة ضدّ القطاعات الأميركانيّة المنتشرة في شرق الفرات. ورغم التّطوّرات السياسيّة الأخيرة التي تمخّضت عن المقاربة الشّاميّة مع التّقارب الذي أبدته معظم الدّول العربيّة تجاه دمشق، فالأمور لم تصل إلى مبتغاها: فلا المساعدات وصلت إلى مستواها المطلوب لتخفيف الأعباء، ولا عودة المهجّرين والنازحين قد حصلت، والحصار المزدوج ما زال قائمًا ومستشرسًا، حيث أنّ هذه الأمور تنتظر ما يمكن أن تقدّمه دمشق من تنازلات تحت عباءة ”الخطوة مقابل خطوة“ التي طرحها السيد بيدرسون بدايةً ورفضتها دمشق، ثم أعادوا طرحها باسم المبادرة العربية عبر بيان وزراء الخارجية العرب في عمان، وقبلته دمشق كعنوان وبقي الخلاف على التفاصيل. وهذا ما لاحظناه بوضوح في المؤتمر الصحفي المشترك لوزيرَي الخارجية ”السوري“ والأردني في دمشق مؤخّرًا، وتصريحات وزير الخارجية الأردني الصريحة والبعيدة في جزء منها عن أصول اللياقة الدبلوماسية بخصوص ما هو مطلوب من الشام. وكذلك ما ينتج عن المصالحة السّعوديّة – الإيرانيّة التي أفضت إلى ارتياح نفسيّ نسبيّ نتيجة إقفال باب من أبواب الصّراعات التي كانت مشرّعة، وهو الصراع المذهبيّ الذي لا يُبقي ولا يذر. وهذه المصالحة قد سرّعت في التّعاون لحلّ بعض المشاكل التي كان يصعب التّطرّق إليها. ولكنّ العمل ما زال صعبًا وفي أول طريقه مع ما لا يمكن التّنبؤ بتبعاته، فتجارب المصالحات السابقة لم تعمّر طويلًا بفعل القرار الغربي بالإبقاء على هذا الصراع في المنطقة نشطًا.. هذه هي الوجهة العربيّة من الصّراعات التي فجّروها في الشّام، والتي ما زالوا يريدون استثمار نتائجها في السلم بعد فشلهم في تحقيق ذلك بالإرهاب والقتل والتدمير. يتبقى لنا الوجهان الأكثر قبحًا وضررًا: الاحتلال التّركيّ والاحتلال الأميركي. فهذان الاحتلالان يكمّل أحدهما الآخر. والتّعامل مع هذين الاحتلالين يتطلّب منتهى الحذر والتّدقيق فيما يمكن عمله في هذا الصّدد.
فالاحتلال التّركيّ يقيم علاقات ذات شأن عميق مع حليفي الشّام روسيا وإيران. وهذا الاحتلال لم ينفّذ حتى الآن ما تمّ الاتفاق عليه عام 2018 للانسحاب من أجزاء من إدلب، وبالتحديد منطقة M4 وكذلك في آذار 2020 بين بوتين وأردوغان. ودون أن ينسينا مشهدُ المواجهة العسكرية وقعقعة السلاح مشهدًا آخر أشدّ قسوة حيث تظهر حقارة التركي في حرب المياه التي يشنّها ضدّ أبناء وطننا في الشام والعراق، هذا الملف الذي يجب على المفاوض الشامي أن يحمله ويعطيه أهمية توازي أهمية الانسحاب العسكري من الشمال. وقد شهدنا سلسلة لقاءات بين المسؤولين في الشّام وتركيا بمشاركة الحليفين، روسيا وإيران، دون التّوصّل حتّى الآن إلى ما يحقّق عودة الأمن والاستقرار إلى المناطق التي تسيطر عليها القوات الغازية التّركية وبعض الميليشيات المسلّحة والمدعومة أميركيًّا وتركيًّا في الوقت ذاته. وقد شهدنا موقفًا مشرّفًا من الرّئيس بشّار الأسد برفضه اللقاء بالرّئيس أردوغان قبل أن يقرّ الأتراك بالانسحاب من الأراضي الشّاميّة وفق جدول زمنيّ يتوصّل إليه الطّرفان بمساعدة روسيا وإيران. والتّصعيد العسكري من قبل الجيش الشامي الحاصل هذه الأيام يندرج في إطار الضّغط على المسلحين الإرهابيّين بغية تحرير المناطق التي يسيطرون عليها، بينما هو إعادة انتشار وتبادل مواقع في العمليات الدائرة بين ”هيئة تحرير الشام“ والقوى الموالية لتركيا.
أمّا الاحتلال الأميركي المسيطر على شرق الفرات ذي الموارد النّفطيّة والزراعيّة، فهو يتلاعب بمشاعر بعض المتنفّذين هناك بحثّهم على معاداة الدولة بغية الحصول على بعض المكاسب الخاصّة والدّوران في حلم إقامة الدّولة الكرديّة، بالإضافة إلى إطباق الحصار على الشعب بحرمانه من ثرواته النّفطيّة والزراعيّة. وككلّ احتلال لا يقاوم تطول إقامته الجاثمة على صدور المواطنين. فالاحتلال الأميركي، كالاحتلال التركي، لن يتركا أراضينا وينسحبا منها إلّا عندما تكون كلفة تواجدهما أغلى مما يجنيانه جرّاءه. وأبغض ما يمكن لمحتلّ أن يحتمل ثمنه هو دم جنوده يتساقطون قتلى وجرحى. وفي هذا السياق نسمع الكثير من الحديث عن ضرورة الانسحاب الأمريكي من الشمال الشرقي من الشام، والسكوت عن قاعدة التنف الأمريكية التي هي الهدف النهائي للأمريكان في المنطقة. وكلّ تواجد آخر هو من باب التكتيك التفاوضي الذي يقبل الأمريكي التخلّي عنه لاحقًا .. ولكن ما يجب عدم التهاون به هو الحديث عن قاعدة التنف وأنّها الاحتلال الأمريكي الأخطر في الشام لما لهذه القاعدة من أهمية ووظائف استراتيجية بعيدة الأجل.
هذا ولا ننسى ممارسات العدوّ اليهودي في الجولان المحتلّ والتي وقف أهالينا في وجهها لمرةٍ جديدة في الأسابيع الماضية بإعلانٍ واضح «الجولان سوري ولا يحتاج هوية»، فرغم الاحتلال الطويل، والإغراءات التي يقدّمها العدوّ، وحتى التهديدات، يقف الجولانيون، نساءً ورجالًا وأطفالًا، وقفة كرامةٍ رافضين التخلّي عن جذورهم. والاعتداءات اليهودية الصاروخية المتكرّرة على العمق الشامي، بدءًا من دمشق ومحيطها إلى حمص وطرطوس إلى ريف حماة وغيرها، تواجهها شجاعة جنودٍ بواسل أبوا الرضوخ للأمر المفعول.
ويبقى الحلّ لما تعاني منه الشام هو هو ما طرحناه، مرارًا وتكرارًا، عبر الدعوة إلى تشكيل إطار جامع واسع يتّسع للقوى السياسية والاجتماعية والثقافية في الشام للانخراط في مشروع يهدف إلى تأسيس ميثاق سياسي جديد، يؤسس للمشاركة في مرحلة نحتاج إليها جميعًا، تُخرج بلادنا من النفق، عموده الفقري، الاشتراك في وطن واحد، في وحدة حياة ووحدة مصير، يؤسس لفعل سياسي، ينسجم مع مرحلة التغيير، وعنوانها الأبرز: حقّ المواطنة للجميع والحرية المسؤولة؛ ويتصدى للمسائل السياسية والمسائل القومية المطروحة في الساحة السياسية ”السورية“ بما يحفظ سيادة الدولة على جميع أراضيها. وهذا ما يستبدل سياسة ”الخطوة مقابل خطوة“ التي تتم المطالبة بها ليرضى عليها الآخرون، بمجموع الخطوات التي يقوم بها السوريّون مجتمعين لتحقيق مصلحتهم التي هي فوق كلّ مصلحة عربية أو أجنبية.
وفي لبنان الذي تتقاذفه أمواج التّدخّلات الخارجيّة من كلّ حدبٍ وصوب، وفي كلّ شؤونه كبيرها وصغيرها دونما اعتبار لسيادة، فالسّفراء يعملون كـ””مفوّضين سامين“ للبلاد التي يمثّلونها، لدرجة استقواء بعض القوى السّياسيّة بهؤلاء السّفراء ضدّ خصومهم السّياسيّين اللبنانيّين. ولا يخجل هؤلاء من تكرار خلافاتهم السياسية التي سئمها الشعب، ومنها الخلاف على انتخاب رئيس للجمهوريّة المنهارة. والفرقاء على انقسامهم مصرّون، حيث استبدلوا التّحالفات الاستراتيجيّة الدّائمة بالـ”تقاطعات“ التكتيكيّة المؤقّتة. فما كان يجمع بين المتحالفين قد خرّبته المنافع الشّخصيّة للقيّمين على هذه التّحالفات، فانهارت أسس التّسوية الكفيلة بانتخاب رئيس بشكل ”سلس وسريع“، فيما المطلوب إسقاط سياسة التسويات وإنشاء نظام جديد يعيد بناء الدولة عبر إلغاء كلّ تشريع طائفي وضمان العدل في الحكم، عندها يغدو انتخاب رئيس أمرًا سهلًا ضمن سياق واضح وسليم. وهذا بعضٌ مما تضمّنته ورقة ”الجبهة الوطنية لإنقاذ لبنان وإعادة بناء الدولة“ التي شاركنا في إعدادها.
ولعلّ السّياسيّين في لبنان لا يعلمون بالمآسي التي يعانيها النّاس على كافّة الصّعد والميادين، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا مدارس، بل زادوا على القطاع التّربويّ بلاءً جديدًا بالقرارات الارتجاليّة وغياب الخطة التربوية النابعة من فلسفة تربوية واضحة، وغياب المناهج التي تنطلق من مصلحة الشعب متوافقةً مع التطور التربوي والتقني المعاصر، توّجها إلغاء الشّهادة المتوسّطة بشكلٍ غير مدروس، دون أن ننسى الوضع المتردّي لموظّفي القطاع العام ككل، والأمنيون والعسكريون من ضمنهم، فلا يأبه هؤلاء السّياسيّون بالنّاس، إنّما بـ”مصالحهم“ الخاصّة التي جنت لهم السّلطة والمال.
والطامة الكبرى هي في تعطيل القضاء، وما يعني ذلك من تعطيل للتحقيقات ولفلفة للملفات، من ملفّ شهداء الجيش في عرسال، إلى جريمة الطيونة، إلى انفجار المرفأ…. وهذه الأبرز، وغيرها الكثير من الملفات العالقة، وخاصةً جريمة نهب أموال الناس والدولة؛ ملفات تحرم الشعب في لبنان من نيل حقوقه، وتسمح بالتمادي في الإسفاف والتفرقة ومحاولات إثارة الفتن عبر إلقاء الاتهامات جزافًا دون رادع.
أمّا ما حصل في الفترة الأخيرة في الأراضي اللبنانيّة المحاذية للأراضي المحتلّة، فهو مما يعيد الفخر ويحمي الكرامة، سواءٌ من مواقف المواطنين المدافعين عن أراضيهم المحتلّة، داخل وخارج ما يُسمّى بـ“الخط الأزرق“، أو موقف الجيش اللبناني الذي، وعلى بساطة تسلّحه المادي، تسلّح بالعزة والكرامة ووقف في وجه محاولات عدة لبسط سيطرة الاحتلال بالحيلة على أراضٍ جديدة، ورغم أنّ العدوّ قد يكون نجح في ذلك في قرية الغجر، إلا أنّه لم يتمكّن من ممارسة عاداته العدوانيّة السابقة للتحرير في أيار عام 2000، والذي تحقّق بفضل صمود الأهالي وبأس المقاومين. وها نحن اليوم مع موعد جديد للمواجهة المستمرة مع العدوّ في قرية الغجر حيث يحاول جسّ النبض وفرض أمر واقع من جديد.
والعراق الذي بذل جهدًا كبيرًا للمّ شمل ”القمّة العربيّة“ التي عُقدت في جدة بحضور الشّام، وكذلك في المصالحة السّعوديّة- الإيرانيّة بإشراف الصّين، مازال يعاني جرّاء الغزو – الاحتلال الأميركاني له منذ عشرين سنة. فهو يعاني من هدر طاقاته الهائلة نتيجة الانقسام الحادّ بين أبنائه بعد أن زرع هذا الحاقد الأميركاني، المدفوع يهوهيًّا، فكرة تقسيم العراق إلى كيانات قائمة على أساس طائفيّ بين السنّة والشّيعة وعلى أساس عرقيّ للأكراد. وقد وافقت الدول المعنيّة بالصراع على العراق حينها على هذه التّقسيمات، وحصلت كلّ منها على حصصها من موفور إنتاجه وإمكانيّاته. ولن تقوم قائمة لهذا الكيان حتى يستطيع التّخلّص من هذا النظام القائم على تفتيت العراق وهدر طاقاته. وحال العراق لا يختلف عن حال لبنان لجهة التّدخّلات الخارجيّة في شؤونه، وقد شهدنا ظروفًا مماثلة في انبثاق السّلطة لما نشهده في لبنان حاليًّا.
أمّا الأردن فما يزال خاضعًا لضغوط كافّة المحاور المتناحرة، رغم ما يقوم به من مساع لتقريب وجهات النّظر بين هذه المحاور وخاصّة في الشّام، (رغم معرفتنا الأكيدة أن ذلك ما كان يحصل لولا الموافقة الأمريكية الضمنية) متابعة لما اتفق عليه في اجتماعَي جدة وعمّان اللذين سبقا انعقاد القمّة العربيّة، لكنّه يبقى مكبّلًا بالاتّفاقات التي وقّعها صاغرًا مع العدوّ، والتي تجعله تحت رحمة التنازلات. وليس الحال في الداخل الأردني بأفضل من الحال في لبنان أو العراق، رغم ما يتمتّع به هذا الكيان من مقدّراتٍ تكمل دورة الحياة الطبيعيّة بين الكيانات السورية المتفرّقة.
والكويت، ورغم المواقف الواضحة من المواطنين وبعض المسؤولين ضدّ العدوّ الداعمة لفلسطين، إلّا أنّه يخضع لمقرّرات ”مجلس التعاون الخليجي“ الذي أخرجه عن محوره الطبيعي أيضًا في العلاقة مع كيانات الأمّة، وما شهدناه من تأييد الكويت لاستمرار الحصار على الشام بعد الزلزال الأليم الذي ضرب الشمال السوري لهوَ موقف مؤلمٌ وقاسٍ وذو أثرٍ كبير في إعاقة عودة العلاقات بين الكيانات.
وقبرص، وكيليكيا والإسكندرون والأهواز لا تزال قابعةً تحت الاحتلال، في غربةٍ عن حياتها الطبيعيّة، وعن وحدة الحياة في محورها الطبيعي كما بقية الكيانات السورية، حيث لن نستطيع إزالة الحدود المصطنعة إلّا بجهادنا في كلّ الميادين، وبتحقّق الوعي في الشعب السوري وهو شرط أساسي لاستعاده أرضه كاملةً وإحقاق كرامته.
ونعود إلى التذكير بأنّ الحلّ الناجع الذي يحقّق إمكانيّة نهوض هذه الكيانات لن يكون إلّا بالتكامل بينها، والتنسيق الاقتصادي والعسكري لحماية مصالحها، وتحقيق حاجاتها، وردع أطماع المتربّصين بها، لتكون لها الحياة العزيزة بتحرير كامل أراضيها.
أمّا في العالم العربي، فنجد تزايدًا لنفوذ المملكة العربيّة السّعودية عقب مصالحتها مع إيران وترؤسها القمّة العربيّة، والابتعاد النّسبيّ عن الخيارات الأميركية، وخاصّة في المسائل النّفطيّة والعلاقة مع دمشق والوضع في اليمن. ولعلّ الوضع المتفجّر في السّودان هو من أهمّ ما استجدّ بعد القمّة العربيّة في جدة، حيث لم تكن هذه الأحداث وليدة ساعتها بل هي نتيجة تدخّل الموساد وأجهزة المخابرات الغربية، وتراكم خلافات داخلية مترافق مع اختلال في العلاقات بين السّعوديّة ودولة الإمارات العربيّة التي تجاهر بعلاقتها مع أحد طرفيّ الصراع الدّائر هناك.
والمؤسف إن دول العالم العربي تسابقت إلى ”التّطبيع“ مع الدولة اليهودية وإلى إقامة علاقات متينة معها، فيما لا تزال هذه الدول في حالة عداوة وخصام وتصادم تضرّ بشعوبها، بل إن ”الجامعة العربية“ تآمرت على العراق والشام.. وسببت بسياستها سقوط مئات آلاف الضحايا من شعبنا، وكانت عونًا للمحتلين، كما لا تزال تمارس «الطغيان على قوميات أمم العالم العربي».
وعلى الصّعيد الدولي تبقى الحرب في أوكرانيا هي الشّغل الشّاغل للعالم أجمع، لما ترخيه من ظلالٍ على الأوضاع الاقتصاديّة في العالم أجمع وخاصّة أوروبا، الضّحيّة الأولى لهذه الحرب. بالإضافة إلى الصّراع بين الولايات المتّحدة والصّين في سياق التّسابق الاقتّصاديّ القائم بينهما والمهدّد للاستقرار العالمي في بحر الصّين. ناهيك عن العودة إلى الحديث عن الاتّفاق النّووي الإيرانيّ وما يشاع عن ”ميني“ اتّفاق لا يحتاج إلى إقرار في الدّوائر التشريعيّة في إيران أو الولايات المتّحدة. هنا لا بدّ من الإيضاح أنّه أيًا تكن نتائج تلك الصراعات، فإنّ ما يعنينا منها هو ما يصبّ في الجانب الذي يحقّق مصلحة أمّتنا، ويسهم في استرداد حقوقنا القومية، وأيّ دولة تنتصر دون أن تحقّق هذه المعادلة سنعتبرها ساقطةً من عالم الإنسانية الأدبي كسقوط أميركا الذي أعلنه الزعيم منذ قرن.
أيّها المواطنون والرفقاء،
في مقالة ”عوامل فاصلة في الاتجاه السوري“ عام 1941، قال سعاده: إنّ «السلطة القائمة من الشعب في الشعب هي عنوان استقامة أمر الشعب وانتظام شؤونه ورفضه الاعتراف بأية سلطة أجنبية عليه. والشعب الذي يفقد مبدأ السلطة والطاعة يفقد مبدأ استقلاله الفعلي ويكون أمره فوضى فلا تقوم له قائمة». إنّ الفوضى التي نعانيها ونعاينها في كياناتنا – رغم الإضاءات التي برزت في الأيام القليلة الماضية – ليس لها سببٌ سوى فقدان الاستقلال، الاستقلال السياسي بالخضوع للأمر المفعول الناتج عن سايكس – بيكو والمعاهدات التي تلتها، حارمةً شعبنا من حقّه الطبيعي في أرضه كاملة، والاستقلال الاقتصادي الذي يؤدّي إلى تمتّع دول العالم كلّها بخيرات وطننا، كما يحصل في الشمال الشامي وفي العراق وفي ما سمّي الاتفاق، ولو بشكلٍ غير مباشر، على ”تقاسم“ غازنا الطبيعي في مياهنا الإقليميّة (لبنان وفلسطين) بين لبنان والعدوّ، وليس لهذا علاجٌ إلّا بالعودة إلى القاعدة: «لا خير ولا ارتقاء بلا الأرض، والأذلّاء يضمحلّون أمام الأعزاء والذين يكسبون الأرض يهلكون إذا لم يعرفوا أن يحافظوا عليها. الوصول إلى السماء يقتضي ارتقاءً لا انحطاطًا. السماء بالعزّ لا بالذلّ، فصونوا بلادكم عزيزة واحفظوا أرضكم، ففيها السماء والخلود!» (سعاده، مقالة ”اقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض“، جريدة ”الجيل الجديد“، العدد 11، في 12 نيسان 1949).
أيّها الرفقاء،
عندما يُقسم الواحد منا بشرفه وحقيقته ومعتقده على اعتناق العقيدة السوريّة القوميّة الاجتماعيّة، يقوم بذلك تعبيرًا عن إدراكه أن لا طريق لإنقاذ شعبنا ونهضة أمّتنا إلّا بهذه العقيدة.
«إنّ الحركة القومية الاجتماعية، قد حققت شيئًا أساسيًا داخليًا وهو الوعي القومي واتخاذ القومية عاملاً روحيًا، عاملاً موحّدًا القلوب والأفكار، موجّهًا القوى القومية في إرادة واحدة وعمل منظّم واحد نحو غايات الأمّة العظيمة. هذا النسيج الجديد من الإرادة والأفكار هو شيء ضروري جدًا، شيء لا يُستغنى عنه مطلقًا للنهوض بالأمّة من الحضيض الذي وصلت إليه وللتقدم بها نحو ميادين الحياة الواسعة. كلّ محاولة بدون هذا النسيج، بدون هذه الوحدة الروحية الفكرية في الإرادة والعزيمة المرتكزة إلى شيء حقيقي واقعي، إلى مجتمع واحد في حياة واحدة ومصير واحد، بدون هذا الأساس لا يمكن النهوض ومواجهة الأفكار بأمل الانتصار.» (سعاده، في طلبة الجامعة الأميركية، 1949).
في مواجهة ما تعانيه الأمّة، «إنّه لا يزال في إمكاننا أن نعدِّل مجرى الأمور لمصلحة أمّتنا وحياتها ومستقبلها، والخطة لذلك مرسومة، ولكن ينقصنا شيءٌ جوهريّ هو: أن نلبّي الواجب دائمًا ونخضع للنظام دائمًا. هو أن نسحقَ محبةَ ذواتِنا ونحيي محبةَ جنسنا ووطننا.» (سعاده، مقالة ”حالتُنا الداخلية تجاه بعض قضايانا الخارجية“، ”الزوبعة“، العدد 79 في 12 آب 1944)، ماذا ننتظر، ونحن الهيئة التي من المفترض أنّ الوعي قد تحقّق فيها، ماذا ننتظر لنحقّق ما رآه لنا الزعيم، وما وثق به بأنّ في النفس السوريّة كلّ حقّ وخير وجمال، فنكون عقلًا واحدًا وقلبًا واحدًا ويدًا واحدة لإحقاق حقّ سورية وعزّتها وسؤددها؟!
لتحيَ سورية حياة سعاده
المركز، في عيد الفداء 2023
رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي
الرفيق الدكتور علي حيدر