ولد أبولودور في دمشق عام 60 م. ومات منفيًا عام 125 م . لم ينتمِ أبولودور للطبقة الأرستقراطية، ومع ذلك فقد فرض احترامه ووصل لأعلى المناصب، وكان مرافقًا للإمبراطور تراجان.
شغل منصب وزير الأشغال العامة وكان يتصدّى لأصعب المعضلات الفنّية والتقنية، كان شجاعًا في حياته حيث أوقف ولي العهد هدريانوس عند حدّه وسخر منه ونقده، الأمر الذي كلّفه حياته.
سوريا وروما في عصر أبولودور:
يرى بيانكي باندينيللي أن أكثر الدفقات الثقافية حيوية كانت تأتي غالبًا من مقاطعات الشرق سواء في الفكر أو الفن. ومنها يأتي أنشط رجال السياسة وأكفأ الموظفين والقادة العسكريين وهذا التداخل بين روما والولايات الشرقية ظهر بشكل خاص في السلالة الأنطونية “سلالة الأمبراطور تراجان” لدرجة يستحيل معها النظر إلى الرومان بعد ذلك العصر من زاوية النظر لروما وحدها.
ويذكر تاريخ كامبردج “إن بعض العلماء يعتقدون أن سوريا في مجال العمارة كانت متقدمة على روما، بل كانت بالنسبة لها النموذج الذي احتذته، وأن سوريا تفوقت على روما في عبقريتها المبدعة وفي معارفها التقنية وفي مهارة عمالها، ويفترض أن أبولودور الدمشقي قد اقتبس تصميمات المباني في سطح الكوريناليس عن موطنه الأصلي ..”.
وهنالك قول للشاعر اللاتيني الهجّاء جوفينال “إن العاصي السوري أخذ يصب مياهه منذ وقت طويل في نهر التيبر حاملاً معه لغته وعاداته..” . ممّا يؤكد حضور السوريين وتفوقهم في روما.
كان أبولودور وتراجان صديقان حميمان، وتعود هذه الصداقة لأيام خدمة تراجان كمحام عسكري في سوريا عندما كان أبوه واليًا عليها. كان أبوه قائدًا للفرقة العاشرة في حرب الرومان ضد اليهود، وحكم سوريا.
يعتبر الرومان تراجان ( 117-98م) أفضل الأمراء ويسمّون عهده “الأزمنة السعيدة”. ولد قرب إشبيلية في إسبانيا الجنوبية (53م) من عائلة إيطالية سكنت أسبانيا.
نشأت في أيامه أفكار فلسفية رواقية جديدة، حول الفرق بين الطاغية والملك، فالأخير كما تراه تلك الأفكار قد اختارته الآلهة لأنه خير الرجال وليست سلطته وراثية، فقد اختار من أتى قبل تراجان وسلالته من بعده خلفاءهم بأنفسهم وتبنوهم، والسلطة عبء فرضه الله والدولة ويتطلب من العاهل انضباط صارم وشعور دائم بالواجب. ومع تراجان انتهت في الفن الصور المحوّرة المألّهة للأمبراطور وأصبحت تعطى رسميًا صورته الحقيقية وظهرت منحوتات تمثل الطبقة الشعبية في العديد من المناسبات.
كان أبولودور يستخدم في الإنشاءات مادة تتمتع بالمرونة والخفة مع المتانة، وهي (الكونكريت) وهي تربة حمراء يؤتى بها من نابولي وتخلط بالكلس ويضاف إليها مكسرات من حجر “الترافرتيين” وهو حجر كلسي، فتصبح صلبة كالأسمنت كتيمة تقاوم عوامل الطبيعة حتى مياه الأمطار.
إبداعات أبولودور:
أعمال أبولودور العمرانية:
– السوق على سطح رابية الكوريناليس
– الميدان التراجاني (الفوروم)
– دار العدل الأوروبية
– المكتبات
– عمود تراجان
– الجسر العملاق على نهر الدانوب
– قوس النصر في مدينة بنيفانتوم
– قوس النصر في مدينة أنكونا
– حمامات وجمنازيوم
– توسيع مرفأ أوسيتا
– إصلاح قناة من النيل للبحر
– مؤلَّف في آلات الحصار (في الحرب) أهداه لهدريانوس
سوق تراجان:
بني على ست مستويات (طوابق) متدرجة، وقد حقق بذلك أقل إشغال للأراضي، وهي متدرجة على السطح مما يمنع الانهيارات في الأطراف. وقد حل مشكلة المرتفع على الطرف الشرقي الذي كان يشوّه منظر الأرض ويحدث انهيارات.
يعد أجمل وأكبر ميدان في روما، على الإطلاق .
أقيم في ميدان تراجان، مزين حوله بإفريز ملتف حول جذعه كفيلم تسجيلي، فالإفريز والإسلوب المتتابع بالرسوم استوحاه من المنحوتات الآشورية، ارتفاع العمود (33 مترًا)
_الأفريز هو شريط منحوت حلزوني، وله قاعدة مكعبة معدة لتضم رفاة الإمبراطور، وفي داخل العمود درج دوار. منحوتات الشريط تضم الحربين اللتين قام بهما تراجان في رومانيا.
نلاحظ على هذا العمود، رماة تدمريون في زيّهم الوطني التدمري – عن مجلة الآثار الفرنسية العدد 17 عام 1976 .
وقد أنشأ الإمبراطور أركاديوس، عمودًا على طراز عمود تراجان عمود في القسطنطينية، كما تم إنشاء عمود على طرازه في فرنسا، تخليدًا لحملات نابليون.
الجسر العملاق على الدانوب:
كان أبولودور مهندسًا حربيًا للإمبراطور تراجان، وقد رافقه في حروبه الدّاكيّة – نسبة إلى داكيا في رومانيا- حيث وضع تصاميم هذا الجسر وأنشأه على الدانوب عند مضيق أبواب الحديد قرب مدينة ( دوبريسين) الحالية في هنغاريا.
صعب على الرومان إقامة أساسات وركائز في سرير النهر بسبب غزارته بحيث لا يستطيعون تحويله، فقام أبولودور بعمل فيه تقنية عالية لأول مرة في التاريخ، حيث نجح بإرساء عشرين ركيزة قوية جدًا في سرير النهر ثم مدّ جسرًا بطول(1100 م)، وحصّن طرفي الجسر بالأبراج . أزال هدريانوس سطح الجسر حتى لا يستخدمه العدو ثم أصلحه الامبراطور قسطنطين ولا تزال بعض آثاره باقية.
معبد البانثيون :
معبد البانثيون في روما يعني (مجمع الأرباب) وهو من أهم المعابد الرومانية المستديرة الباقية وقبته مزينة من الداخل بمصندقات (صناديق) تصغر تدريجيًا في العمق، تخفيفًا لوزن القبة وتجميلاً لشكلها عندما ينصب عليها النور، وتأمينًا لوضوح السمع!!!
القبة كانت عند أبولودور كثيفة وخالية من النوافذ. أما هدريانوس فقد أرادها كالمظلة ولها نوافذ، فسخر منه أبولودور وشبه قبته باليقطينة.
الحمّامات:
الحمامات المبنية على رابية (الأسكويلينوس) كانت أساسًا للحمامات التي شيّدت فيما بعد -اهتم أبولودور بالأقسام الرياضية والترويحية.
تعديل مرفأ أوسيتا:
تنسب الدراسات الحديثة لأبولودور تعديل مرفأ أوسيتا وإنشاء حوضه المضلع المسدس الذي يشبه من حيث الشكل النماذج الهلنستية السورية.
أبولودور وهدريانوس:
كان هدريانوس مولعًا بالعمارة الإغريقية، وكان أبولودور ينتقد تصاميم هذا الإمبراطور. وكلما كان أبولودور يتناقش مع تراجان حول بعض التصاميم كان يتدخل هدريانوس في النقاش فيطلب إليه أبولودورساخرًا أن يذهب إلى يقطينته (قبته).
وعندما أصبح هدريانوس إمبراطورًا أرسل لأبولودور تصميمًا للمعبد العملاق الذي يزمع إقامته للرّبتين روما وفينوس فانتقده أبولودور ولم يعجبه التصميم. وكان انتقاده صحيحًا من وجهة نظر نقاد فن العمارة، حيث أن المعبد كان طوله 136 مترًا وفيه 60 عمودًا. ولم يرفع على منصة عالية بل كانت منصته منخفضة جدًا فبدا طويلاً جدًا وواطئًا جدًا فكان يجب أن يناسب الارتفاع طوله غير الاعتيادي . كما كان أبولودور يسخر منه ويعيّره بأن تماثيله العملاقة تحطم سقوف المعابد، فكرهه هدريانوس وأتهمه بأشياء مختلفة ثم نفاه وأمر بقتله.
وهكذا قضى أبولودور ضحية إبداعه وشجاعته وجرأته في إبداء آرائه الرائدة في فن العمارة.
أبولودور الدمشقي، منشورات وزارة الثقافة-الشام
دكتور عدنان البني – دمشق 1990