طابت أوقاتك أيها المشرّع العظيم …نتطلع الى عصرك بعد أربعة آلاف عام، وأنت ملء السمع والبصر… ملكًا عظيمًا ورجل قانون وإدارة، ومصلحًا اجتماعيًا، وقائدًا سياسيًا وحَّد بلاد ما بين النهرين، ووصل بحدودها إلى البحر المتوسط غربًا، ليرسي قواعد وحدة البلاد جغرافيًا وبشريًا وحضاريًا. هل تستطيع النظر إلى عصرنا بعد هذه الألوف من السنين؟
أيّها الملك حمورابي
لقد بحثت َعن أماكن الرفاه للناس
لقد بحثت َعن أماكن الرفاه للناس
وخففت َ عنهم الشدائد
وجعلت النور يسطع فوقهم
وحققت رخاء البلاد، ومنعت عنها الأعداء
جعلت الناس يبتهجون بالسلام على المروج
ومنعت الخوف أن يأتي إليهم
وأوكلت إليك
مهمة الراعي الذي يحفظ السلام
وتكون عصاه عادلة
وظلّه يغطي المدينة
نحن نعرف هذا عنك أيّها الملك العظيم … ولكن! هل تعلم بما حصل لمملكتك بابل في الأزمان اللاحقة؟ جاءتك جيوش الأعداء من كل حدب وصوب، وكان آخرهم المغول القدامى والجدد. وكل منهم يحاول أن ينتزع منك السيادة .. ولكن أحفادك القادمين من جزيرة العرب نشروا ملكهم العادل في الآفاق وأعادوا أمجاد بابل وعظمتها… ولكنّ طاغية همجيًا يدعونه “هولاكو” يأتي من أقصى الشرق ليدمر ما بناه أبناؤك وأحفادك… ويزرع الخراب والرعب… ويحرق المكتبات ودور العلم، ويجعل نهر دجلة يجري بمياه سوداء من حبر الكتب، ومياه حمراء من دماء آلاف القتلى .
إن الدمار الذي أحدثه هولاكو في مدن أحفادك هو تدمير لكل الحضارات السالفة… نحن نعلم أنك وضعت تشريعًا قبل أربعة آلاف عام حرصت فيه على إحقاق الحق والعدل وإنصاف الضعيف المظلوم… وهو تشريع جمعته من حضارات سابقة لدى سومر وأكاد… لقد بنيت مجتمعًا حديثًا قائمًا على الصناعة والتجارة والقانون يختلف عن المجتمعات الرعوية البدائية .
ولكن أحفادك نهضوا من كبوتهم بعد همجية هولاكو.. ودخل هولاكو في النسيان… وعادت بابل مزهوة بابنتها بغداد، وتوالى عليها الدمار من أناس يسمّون أنفسهم الصقور وهي لا تليق بهم لأن الصقر ذو عزة وكبرياء وهم أنذال غدارون يمكن أن يسموا عصابة الذئاب بدل الصقور، وهم أحلاف مشبوهة يقودها جزّار يرعى البقر .
التقت الحضارات في بغداد في أوابدها ومتحفها ومكتباتها… سبعة آلاف من السنين ملخصة في بغداد ومتحفها…
ومن خلف الستور يأتي أبناء الحاقد “إرميا” وجماعته لتدمير بابل.. ألم يقل لهم : ادخلوا بابل واقتلوا كل من فيها وأحرقوا الحجر والبشر والحرف والكتاب… ولا تتركوا فرصة للحياة في أرضها .
جاؤوا شبحًا أسود قادمًا عبر البرّ والبحر والسماء… لا ندري إذا كان اسمه “هولاكو ” أو “بولاكو ” أو “بوشاكو” إنه هذه المرة لن يكتفي باحتلال الأرض وقتل الناس، بل هو سوف يرسل زبانيته وقراصنته إلى رموز الثقافة والحضارة…
انتبهوا.. إنهم يدخلون متاحفكم ومكتباتكم وأماكنكم التاريخية.. يحاولون إلغاء ذاكرتكم وزرع ذاكرة جديدة.. يريدون إلغاء مردوك وحمورابي ونبوخذ نصر والرشيد والمأمون… ولهذا فإنهم سيحرقون الكتب والآثار والأوابد والمخطوطات.. إنهم ضد الشريعة التي وضعتها وضد بيت الحكمة العظيم يا حمورابي وضد كلّ القوانين السماوية والإنسانية .
استمعوا إلى ما قاله مردوك وكيف فهم النظر إلى الشعوب البشرية:
يا راعي البلاد الذي حمى كافة الشعوب مهما بعدت
أيّها الحاكم المطلق لكافة أماكن العبادة
يا من اسمك على لسان جميع البشر بالمديح والخير
يا مردوك …. أيّها السيد العظيم
اجعلني أنطق بالحقّ
اجعل الخير يسكن قلبي
اجعلني أبشّر بالخير كلّ البشر
اجعل الحياة والسلام في يميني ويساري
اجعلني محبًا لكلّ الناس
* * *
حمورابي .. أيّها الملك الجليل ..
ألا تسمع بما يجري اليوم في بابل … هولاكو الجديد يقول إنه أنجز المهمة … وهل تدري ما هذه المهمة … لقد صرّح علناً وبصفاقته المعهودة بأنه سوف يعيد العراق إلى العصر الحجري …
وها هو اليوم يبدأ سحب جنود احتلاله بعد إنجاز المهمة التي يزعم أنها “إحلال الديموقراطية” وبابل الجريحة المدمرة اليوم تشكو بصوتها المخنوق. وهي ترى المهمة التي تم إنجازها :
– مليون ونصف المليون من القتلى.
– أربعة ملايين مهجّر خارج العراق.
– مليونان ونصف المليون من المهجّرين داخل العراق.
– ثمانية ملايين امرأة وطفل من الأرامل والأيتام.
– فوضى مبرمجة ودمار دائم.
– نزاعات بشعة بكافة أشكالها.
– تقسيم البلاد إلى كانتونات مخنوقة.
– نهب ثروات البلاد في باطن الأرض وظاهرها.
– زرع أمراض وتلوث وتشوهات تبقى زمناً طويلاً.
– اتفاقيات أمنية واقتصادية مع الذين حضروا مع الدبابات التي أرسلها هولاكو، وهؤلاء منحوا هولاكو بقاءً طويلاً باتفاقاتهم.
– إخراج مملكة بابل من التاريخ، وهي التي صنعت التاريخ البشري في بواكيره.
أليس هذا إنجازاً مهماً لمهمة كبيرة؟!
هل هي أحقاد تاريخ أسود؟!
هل هو الجشع الوحشي الذي لا يتوقف عند حد؟!
هل هو السعي إلى التحكم بالأقاليم الجغرافية والسياسية والبشرية المحيطة بمملكة بابل العريقة؟!
مع هولاكو الأول جرى ” دجلة ” دماً وسواداً ..
ومع هولاكو الثاني … جفّت ينابيع دجلة
فمتى يعيدها أبناؤها البررة إلى الحياة ؟!.
حلب
صحيفة الجماهير
صحيفة الجماهير
الاثنين30-8-2010
محمّد قجّة*
محمّد قجّة*
* محمد قجة باحث في التراث وكاتب ومؤلف من مدينة حلب يرأس حالياً جمعية العاديات الحلبية وهو رئيس اللجة المنظمة لحلب عاصمة الثقافة الإسلامية 2008