قبل سنتين من اندلاع الحرب الداخلية في لبنان كان موضوع ”تغيير النظام“ قيد التداول لأن الفوضى والفساد كان قد استفحل أمرهما في ظلّ عجز الحكومات الرجعية وحالة من الأحقاد الطائفية.
حينها كان الحزب السوري القومي الاجتماعي قد خرج للتوّ من حالة الحظر بعد انقلاب عام 1961-1962 الذي قام به بعض من الذين لم يدركوا أن غاية الحزب هي إحداث ”انقلاب فكري فاصل“ في تاريخ الأمّة السورية، وإقامة نظام جديد «يكسر قيودَ حيويةِ هذه الأمّة» ويكون «فيه التعبير الصحيح عن مصالحنا القومية وعن إرادتنا المجتمعية»، وليست غاية الحزب القيام «بالانقلابات الانتقامية والسعي لحلّ مشاكل الاستياء الخصوصي والغايات الخصوصية».
في هذه الأوضاع الفوضوية المشحونة بالتوترات المذهبية- كما اليوم- ألقى الدكتور أنطوان أبي حيدر محاضرة بعنوان ”تعالَوا نغيّر النّظام“ في 10 نيسان 1973، اخترنا لكم مقتطفات منها.
يقول الرفيق جورج عبد المسيح في رسالة ”إلى مقرّر إحدى الكتل النيابية في لبنان“ في 17 آذار 1977: «حين ألقى الدكتور أنطوان أبو حيدر رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي هذا الحديث في كلية الحقوق والعلوم الإدارية في الجامعة اللبنانية تحرّك ”المكتب الثاني“ اللبناني وأرسل أحد أفراده، ويحمل الليسانس من الجامعة اللبنانية، لكي يستوضح ”خفايا“ الدعوة إلى تغيير النظام.. ناقشنا معه شروط الاستماع إلى الأحاديث وفق المقاييس العلمية بعيدًا عن الهَنات السياسية أو الفئوية أو الوظيفية».
يومها كان ”المكتب الثاني“ الأداة الأولى في يد الحكومات المأمورة الطاغية، أمّا اليوم فقد تراجع هذا المكتب وحلّت محلّه أدوات متعددة تعمل لمصلحة الطغيان الخفيّ.
الشعب يريد إسقاط الفوضى وإقامة النظام، ولكنّ الطائفيون الجهّال – دون أن يدركوا- ينفّذون إرادة العدوّ فيعملون على إسقاط الشعب وموته.
في 15 كانون الثاني 2023
دائرة النشر
مقتطفات من المحاضرة
«إنّ الاعتداء اليهوديّ الوحشيّ الّذي حصل مُؤخَّرًا* وسقط فيه عدد من الشّهداء الأبرار ككلّ اعتداءات اليهود علينا، لم يُفاجئنا قطّ. فالّذي يعرف نفسيّة اليهود الإجراميّة وتصميمهم العدوانيّ ضدّ شعبنا وأرضنا لا يُفاجَأ بكلّ ما يصدر عن اليهود لأنّ كلّ أعمالهم هي حلقات تتوالى ضمن مخطّطهم العدائيّ الشّامل. ولكنّ ما يُثير الاستغراب هو أنّنا نُلدغ مرّة تلو المرّة من الجُحر نفسه، ونحن نحسب أنفسنا في عداد المؤمنين. ولم نُقدم على بناء ما يؤمّن لنا الحيطة والحماية ضدّ ما تنفثه علينا عدوّتنا الأفعى الأثيمة.
إنّ ما يدعو إلى الدّهشة أنّه على الـرّغم من كلّ تجاربنا وكلّ ما عانينا ونُعاني فإنّ ردّة الفعل بالإجمال تأتي من قبيل: حايدة عن ظهري بسيطة…! وإنّنا لا نزال في حالة من الفوضى والبلبلة والتّضارب والشّكّ تحملنا على القعود بدلًا من النّهوض. وإنّ نظامنا ما زال دون المستوى الّذي يجعله قادرًا على مجابهة التّحدّيات من أنّى أتت. فتعالَوا نغيّر هذا النّظام، وإنّنا إن أردنا لقادرون على ذلك…
لنبدأ إذن بتحديد ألفاظنا في عبارة: ”تعالَوا نغيّر النّظام“، عنوان هذا البحث. إلى جانب معنى الدّعوة الشّاملة، المُطلَقة في ندائنا: تعالَوا.. أودّ تضمينها معنًى مجازيًّا آخَر بأن نعتبر اشتقاق لفظة تعالَوا من العلوّ والتّعالي عن فوضى الأقوال والأعمال. ففي التّعالي توافقٌ صحيح مع النّظام.
أمّا كلمة ”نغيّرُ“ فنحن جميعًا مشمولون بها. بهذه النّون في بداية الكلمة الدّالّة على جميعنا. لأنّ حقيقة كوننا مجتمعًا واحدًا، تجعل كلّ ما نعنى به، مجتمعيًّا في التّصميم والتّخطيط والتّنفيذ وفي النّتائج. والتّغيير فعلٌ ذو أبعاد ومراتب في المحتوى والتّنفيذ…
ويحتوي فعل التّغيير أيضًا على البديل المنشود، لو ذهنيًّا. فلا يقف محتوى الفعل، في الذّهن، عند حدّ الأمر الّذي نريد تغييره، بل يتعدّاه إلى البديل أيضًا. والبديل يجب أن يكون واضحًا قبل حدوث التّغيير.
ونأتي إلى لفظة نظام، لنتفاهم ولو في حدود قاموسيّة على معناها. ولا بدّ من وضع تحديد لما لا حدود له في حقيقة الوجود فلا تزداد البلبلة الفكريّة من جرّاء الفوضى في استعمال الألفاظ.
لم أجد في قاموس اللغات الّتي أعرفها تحديدًا للفظة نظام أوفى من معناها القاموسيّ باللغة العربيّة. جميع الألفاظ في هذا الموضوع مثل Ordre، Code، Regime، System الّتي تُستخدَم في هذا الحقل لا تصل في المدلول إلى لفظة نظام في القاموس العربيّ، حيث تعني: الخيط الّذي تنتظم فيه اللآلئ.
وتضمّ اللفظة في محتواها أيضًا أنّ:
النّظام هو الطّريق والعادة، ونظام الأمر قوامه.
والنّظام من النّخل والجراد هو الصّفّ.
نَظَم اللؤلؤَ أو غيره أي ألّفه في عقد.
ونظمُ الشّعر هو الكلام الموزون والمُقفّى.
ونظم الشّيءَ إلى الشّيءِ = ضمّه إليه.
وانتظم الأمر = استقام.
كلّ هذه التّفعيلات ومشتقّاتها من نَظَم والنّظام، لها إطار واحد يوحي التّناسق والتّناغم والالتحام والتّوحيد، والبناء. ولا مجال فيه على الإطلاق للفوضى والتّشتّت والبعثرة والتّراكم والتّخريب…
لا يمكن أن يحصل تغيير إلى الأفضل ونحن فِرق ومِزق، فكرها مُشتَّت، قوّتها مُبعثَرة، طلباتها وغاياتها ومقاصدها مُشعَّبة ومتنافرة، تدور في الجزئيّات وتدور بنا الفوضى وتدفعنا الحاجات المُلِحَّة الفرديّة منها والفئويّة إلى مثل هذه الحال من استشراء الفوضى والتّردّي في التّحقيق…».
* الغارات الجوية اليهودية على مخيّمي البداوي ونهر البارد، قرب مدينة طرابلس، ليل 20-21 شباط 1973، والتي أدّت إلى سقوط 31 شهيدًا . ومن المفيد أن نشير إلى أنه بعد إلقاء هذه المحاضرة بساعات قام اليـهود بعملية اغتيال ثلاثة قادة فلسطينيّين في منطقة فردان، بيروت في 10 نيسان 1973.
** اللوحة بريشة الرسام الرفيق روكز تنوري