رأت لجنة الموقع أن تنشر هذا الخبر الأدبي الذي يتطرّق إلى رغبة الروائية سحر خليفة بكتابة رواية أدبية عن الزعيم. مع الإشارة إلى أن الخبر منقول حرفيًا عن صحيفة الديار في عددها الصادر نهار الاثنين الواقع فيه 30 آب 2010، والموقع ليس مسؤولاً عن الآراء الواردة فيه.
تعلِّق الكاتبة سحر خليفة على انتاجها الادبي قائلة «لطالما قدمت الشعر الفلسطيني أو العربي في صورة شعب مختلف عن بقية خلق الله سواء من حيث التركيبة الاجتماعية، أو المزايا الخلقية، أو النزعات البطولية الفذة التي خلقها الله بتحيز تام وجعل منا أبطال هذا الزمان والمكان. وأنها حاولت عبر مسيرتها الأدبية الطويلة قائلة بملء الفم «أننا مثل بقية خلق الله، عرب أقحاح، بكل ما لدى العرب من بؤس وفقر وتخلف، وأيضا، قصص بطولة تتحدى الظلم والاستعمار كما فعل عرابي وعمر المختار وسعاده وغيرهم من الثوار في كل قطر عربي، إلا أن واقعنا المحلي المتردي، وموازين القوى العالمية المتحيزة ضدنا على طول الخط، لم تثمر وتعطي بقدر ما قدمناه من تضحيات وضحايا، وهذا يحتم علينا أن ندرس هذا الواقع بشقيه المحلي والعالمي حتى نعرف أسباب الضعف ومؤهلات القوة، فلا نظل نعوم على شبر ماء ونحلم ونرفرف ونحلق. علينا أن نغير نظرتنا إلى أنفسنا، والى العالم، فنحن نعيش زمن الرواية الحديثة المستندة إلى العلوم الإنسانية والطبيعية وغير المعزولة عن الثورة الالكترونية الرقمية ومستجدات المعرفة في العصر الحديث. نحن لا نستطيع إعادة صياغة الواقع دون دراسة هذا الواقع، ومراجعة نظرتنا إلى هذا الواقع. الشعر جميل، فيه إحساس وأحلام وتجريد لقوى الإنسان والطبيعة، وحين يهبط على الأرض يفقد الكثير من خصائصه الجمالية والروحية. أما الرواية، الرواية الحديثة، فمن أهم خصائصها أنها تستطيع الولوج إلى الواقع، والحفر فيه، وتسلق قممه والهبوط إلى وديانه دون أن تفقد بوصلتها الفنية والمعرفية. وأنا حاولت، وما زلت أحاول، أن أقدم الواقع الفلسطيني من خلال هذا المنظور، وأقدم نماذجه البشرية بشكل حقيقي، بلا هالات ولا أوهام ولا تصنع. وأعتقد أن الكثيرين يؤيدون نظرتي ويعتنقون أسلوبي ويشجعونه، وإلا لما لاقت كتاباتي هذا النجاح ولما أحبها القراء وتمثلوها وصدقوها وصدقوا شخصياتها الواقعية الحقيقية المنبثقة من أرض البلد وروح الشعب. شخصياتي واقعية وأرضية ومن لحم ودم، والناس حين يقرأونها يسارعون إلى وضعها في سياق حقيقي كما لو كانوا يعرفون تلك الشخصيات معرفة حميمة. شخصياتي، حتى التي جسدتها منذ السبعينات وما بعد، ما زالت تعيش في مخيلة الكثيرين من القراء، فعادل الكرمي في الصبار ما زال يعيش، وسعدية وخضرة في عباد الشمس، وعفاف في مذكرات امرأة غير واقعية، وزينة ومازن جيفارا في الميراث، هؤلاء ما زالوا أحياء لأنهم يعيشون في الواقع، ومن الواقع، في زمن الاحتلال وتخبط الأبطال، أو زمن النحس.
وعن انعكاس مأساة مدينة نابلس وشعبها تقول إن نابلس بالنسبة لي هي المختبر، هي المحك العملي الذي أبرهن من خلاله أن الإنسان العربي المتشابه في الوعي والمعرفة والجهل والتخلف والاضطهاد والصراع مع القوى الأجنبية ومع ذاته هو نفسه سواء كان مكانه في نابلس أو بيروت أو دمشق أو بغداد أو تونس. وبغض النظر عن الإقليمية التي ابتدعها الغرب وفصلها حسب قياسه فأصبحت المقياس الذي نقيس بها أنفسنا كفلسطينيين ومصريين وسوريين، إلا أن هذا الشعب بأفراده وجماعاته ما زال يعيش أجواء التخلف نفسها والإحباط نفسه ومؤثرات الدين واللغة والتراث وقصص التاريخ. فالشخصيات النابعة من حارات نابلس لا تختلف إلا ببعض التفاصيل الثانوية والمحدودة عن الشخصيات النابعة من حارات دمشق أو القاهرة أو المغرب. الإنسان هو الإنسان في كل مكان، ولا يميزه عن غيره سوى عوامل الثقافة والبيئة وظروف العيش بما فيها من بطالة وقمع وتخلف وقوى استعمار واستبداد. وفي هذا كله، أهناك فرق بين ما نعيشه في فلسطين أو جنوب لبنان أو بغداد أو السودان؟ إذن نابلس هي رمز فقط، وهي واقع، وهذا الرمز هو الواقع!
ـ لماذا تعتبرين أننا في قمة الانحدار بينما وصلت المقاومة في فلسطين ولبنان إلى مرحلة متقدّمة من حركة الصراع مع اليهود؟
ـ علينا أن نضع الأمور في نصابها ولا نبالغ أو نعوم ونجعل من الحبة قبة. فأين هذا التقدم في حركة الصراع مع اليهود؟ بالنسبة لحماس، فلا شيء لدى حماس سوى الحماس والخطب الحماسية وعمليات استشهادية توقفت منذ وقت طويل، وصواريخ بدائية أقروا عدم فائدتها ونجاعتها وطلبوا من كافة الفصائل أن تكف عن إطلاقها. يعني المقاومة الحماسية ما عادت مقاومة سوى بالكلام فقط. أما بالنسبة لحزب الله، فعلى الرغم من البطولات والصمود والانضباطية الرائعة والإرادة الفذة، فإن وجود فصيل واحد أو تنظيم واحد محشور في بقعة صغيرة من الوطن العربي ومحاصر بقوى الرجعية والانهزامية لا يكفي للدفاع عن حدود الوطن الشاسعة ومواطنيه وأرجائه. كما أن المقاومة لا تكون بالسلاح فقط، بل بالتنمية الاجتماعية والمشاريع النهضوية. فأين هي تلك المشاريع؟ أين التقدم في المجالات الاجتماعية والعملية والمعرفية؟ أين النهوض الصناعي والزراعي والتربوي؟ نحن في حالة تراجع مستمر، وكافة الدراسات المحلية والتقارير العالمية تشير إلى تباطؤنا وتراجعنا. ازدياد الفقر والتخلف، تراجع المستوى التعليمي في المدارس والجامعات العربية، انسلاخ الجيل الجديد عن الاهتمام بقضايا الوطن والمجتمع والمعرفة الحقيقية، ارتفاع معدلات البطالة، تفشي الفساد والرشوة في المؤسسات الحكومية، تشبث الحكام بأنظمة القمع الدكتاتورية، تغلغل النفاق والتزلف والاستجداء والتبعية وانعدام الكرامة في كل الأصعدة الحكومية والاجتماعية، تراجع الفكر الثوري وانتشار الفكر الظلامي، الرجوع بالمرأة إلى عصر الظلمات بالبرقع والنقاب وعذاب القبر، وانسداد الأفق السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ماذا نريد أكثر من ذاك لنبرهن على أن هذا الوطن تخلى عن كل مقدراته ودفاعاته؟ الانزلاق التام في مشاريع الغرب افقدنا هويتنا وعزتنا وكرامتنا وثرواتنا الطبيعية والبشرية. نحن نعيش مرحلة إفلاس حقيقي، حتى دويلات النفط بدأت تفلس، حتى نهر النيل العظيم بدأ يصادر، حتى القضايا العربية الكبرى صارت ملفات منسية وأضحت نسيا منسيا، وكذلك القدس، وكذلك الجولان والسودان والعراق الحزين. أين هي المقاومة؟ دعونا لا نعوم على شبر ماء. فلنكن واقعيين!
ـ يحصرك النقاد بين ثنائيتين: الرجل /المرأة والاحتلال/ المقاومة، فهل أعطِي نتاجك حقه بين هاتين الثنائيتين؟
وهل لدينا نقد أو نقاد؟ فلنكن دقيقين في التعريف، فما لدينا هو نوع من الصحافة النقدية أو الدراسات الأكاديمية. الدراسات الأكاديمية لا تصل القارئ العادي ولا حتى القارئ المثقف، وتظل محصورة ومحشورة في أطروحات تناقش في المحافل الجامعية للحصول على شهادة أكاديمية ثم يلقى بها في مخازن وأرفف المكتبات الجامعية وتموت هناك تحت الغبار، بمعنى أنها لا تصلنا ولا نستفيد منها كقراء ولا ككتاب. أما الصحافة النقدية أو النقد الصحفي الذي يعتمد على وجهات نظر عاطفية غير مستندة إلى علم أو معرفة بأساليب النقد العلمية الحديثة وكل ما لديها هو التشهير أو المديح العاطفي والحماس غير المبرر ومنهجية «أحبه أو لا أحبه ويعجبني أو لا يعجبني»، فهذا لا نسميه نقدا بالمعنى العلمي للكلمة. أما لماذا حصرني النقاد بين الثنائيتين المشار إليهما، فلأن هاتين الثنائيتين هما الأسهل للتقييم أو المديح أو التجريح. والأبعاد الأخرى التي تتناول البنية الفنية وتطوير الشخصيات وتحليل البنية الاجتماعية النقدية والثورة على أنماط التعبير التقليدية وجمود الاصطلاحات اللغوية، فهذه أصعب بكثير، وبحاجة لخلفية أثقف وأعلم وأشجع، فهل لدينا مثل هذا النقد في الوطن العربي؟ أين هو؟ أين النقاد؟
ـ بعد «ربيع حار»، التي تدور أحدائها في مرحلة حصار الرئيس عرفات، اتجهت إلى التاريخ في «أصل وفصل» وأخيرًا في «حبي الأول».. لماذا؟
ـ لأن الأمور توقفت عند تلك المرحلة ولا شيء جديد. فالحصار ما زال حصارا، والوضع الفلسطيني ما زال في حالة جمود وتفسخ، والانقسام أضاف لعنة جديدة إلى باقي اللعنات، فماذا أكتب؟ أكتب عن جو مللناه وقرفناه ولعناه؟ ما الجديد في ذلك؟ وما نفع التكرار؟ ورجوعي للتاريخ هو لنبش المخبوء وما خجلنا منه وما نسيناه أو تناسيناه. وبرأيي أن أصل الداء هو في التاريخ، فيما نسيناه أو تناسيناه، ومحاولتي استعادة ذاك التاريخ هو للتذكير بأن أصل الداء ليس أميركا ولا إسرائيل، أصل الداء كان فينا، في تربيتنا، في قيمنا، في تركيبتنا الاجتماعية ونظرتنا الخاطئة أو السطحية للأشياء. نحن شعب مهزوم من الداخل، وما لم نسع لإصلاح هذا الداخل لن تقوم لنا قائمة وسنظل في هذا الوضع البائس إلى ما لا نهاية. وأكبر دليل على ذلك أن قيام أبطال أفراد كانت لديهم المقومات الفردية للقيادة الحقيقية والنهوض بهذه الأمة هزمتهم القوى الرجعية في الداخل قبل أن تهزمهم قوى الاستعمار وإسرائيل. وأعطيت بذلك مثلا عن ثورة القسام في اصل وفصل، ثم ثورة عبد القادر الحسيني في حبي الأول، واستعد الآن لمواصلة المسيرة في رواية جديدة تتناول ثورة سعاده في لبنان وسوريا وكيف تكالبت عليه قوى الرجعية والطائفية والزعامات المزعومة وقضت عليه وهو ما زال يؤسس لمشروع نهضوي متكامل. أنا رجعت إلى التاريخ حتى نأخذ العبر والدروس من ماضينا، لأننا للأسف لم نتعلم مما ذقناه، وما زلنا نكرر الأخطاء نفسها ولا نتعلم، لأننا بالأصل لا نتذكر.
ـ من هم القادة الذين استحضرتهم من التاريخ؟ ولماذا هم بالتحديد؟
ـ كما أشرت، استحضرت القسام، ثم عبد القادر الحسيني، والآن أستعد لتجسيد واستحضار أنطون سعاده.
هؤلاء حاولوا القيام بثورات جزئية أو شمولية، بمعنى ثورات ضد الاستعمار أو ثورة تتخطى الاستعمار إلى محاربة الوضع الداخلي وقوى التبعية والرجعية وفشلوا في تحقيق انتصارات تذكر لأن الوضع الداخلي لم يسعفهم، بل على العكس، أحبطهم وغدر بهم وكسر شوكتهم. علينا أن نذكر ذلك باستمرار لسببين، السبب الأول حتى نضع يدنا على الجرح ونوجه البوصلة إلى بيت الداء، والسبب الثاني حتى نتذكر هؤلاء الأبطال ونجعل من قصصهم عبرا نعتبر منها، وسبب ثالث لا بد من ذكره، حتى يرى أبناء الجيل الجديد الذين يعيشون مرحلة الانحدار والتصحر أن هذا الوطن أنجب لنا رجالا عظاما ولم يبخل علينا بمن يستحقون الخلود والاستقرار في ذاكرتنا حتى يكونوا مبعث فخر واعتزاز وكرامة.
ـ عرفنا أنك تحضّرين لرواية تستحضرين فيها أنطون سعاده، فلماذا أنطون سعاده؟
ـ لأنه كان عظيما. كان رائدا في كل شيء، في الفكر، في النضال ضد الطائفية والتشرذم والرجعية، في منهاج حياته، في نظرته الشمولية للأشياء والواقع، وحتى في نظرته النقدية للفن والأدب والعلوم الإنسانية. أنظر حولك، أين هو الزعيم العربي الذي تحلى بما جاء به سعاده وما كان عليه سعاده؟
معظمهم أميون رجعيون أقزام في كل شيء، في مواقفهم ورجولتهم ومنهجيتهم وتبعيتهم. فلا تسألني لماذا أنطون سعاده، بل اسألني لماذا تأخرت عن سعاده!
معظمهم أميون رجعيون أقزام في كل شيء، في مواقفهم ورجولتهم ومنهجيتهم وتبعيتهم. فلا تسألني لماذا أنطون سعاده، بل اسألني لماذا تأخرت عن سعاده!
ـ هل قرأت سعاده المفكر قديمًا أم حديثًا؟
ـ بل حديثا، منذ سنتين فقط، وهذا يعتبر حديثا. والسبب هو أن هذا الرجل وما خلفه من فكر وتنظيم كان في عداد المفقودين في منطقتنا حتى الآن. وما سمعته منذ بداية وعيي السياسي عن التجربة الثورية لأنطون سعاده وخلفائه لم يكن مشجعا، بل كان مليئا بالتحيز السلبي ويفتقر إلى النظرة الموضوعية. وحين وعيت وأدركت ما لهذا الرجل وتجربته من قيمة، لم أجد في فلسطين والأردن ولا حتى في الإنترنت ما يسعفني ويعمق معرفتي. لكن، لحسن الحظ، وجدت أخيرا ما أنا بحاجة إليه من معلومات ومراجع وشواهد، وآمل، بل أتمنى أن أتمكن من التقاط هذا الرجل العظيم وتجربته، وأجسده وأعبر عنه بشكل فني لائق. أعرف أن هذا المشروع صعب جدا، وربما مستحيل، لكني مجتهدة، ومسؤولة، وسأظل أحاول وأحاول.
ـ كنت في لبنان من أجل القيام بدراسة ميدانية حول حياة سعاده؟ فما هي المحطات والمناطق التي زرتها؟ بمن التقيتِ؟
ـ أجل، أنا كنت في لبنان من أجل ذلك، وما زلت ألاحق سعاده في كل ما كتبه أو كتب عنه، وأزور مواقع أقدامه، وربما أبقى على هذه الحال طوال سنين لأن الرجل، ذاك الرجل، كبير جدا، صعب جدا، أكبر وأغنى من أي عمل. وتأخذني الرهبة ويعتريني الخوف أمام قواه وجبروته، وتجربته. لهذا ما زلت أتتبع، أقرأ، أحلم، أتمثل التجربة وأوازن بين المعقول وغير المعقول. وأرفق بعض الصور من رحلة البحث عن سعاده قد تعطيك فكرة عما أقوم به، ولن أعدد أسماء الأشخاص والأماكن، لكن الصور ستغنيني!
ـ هل تستطيعين برأيك أن تعطي سعاده المفكر النهضوي الكبير حقه الكامل في نصّ روائي واحد؟
ـ أبدا، مستحيل، لكني سأكون البادئة بالتجسيد في عمل فني أدبي يصل إلى الناس والشارع، فما كتب حوله حتى الآن كان دراسات، وربما أشعار، وهذا لا يكفي ولا يبلور. نحن بحاجة لعمل كبير فيه تفاصيل، فيه مشاهد، فيه تحليل وتضاعيف، فيه اختبار واختيار ومواقف. هل أتمكن من كل ذلك؟ لا أعرف، لكني صادقة ومخلصة في مشروعي، وإذا فشلت، أكون قد فتحت الطريق لآخرين أقدر مني. وما علي سوى أن أحاول.
منير الحايك