إنّ في حياتنا الاجتماعيّة، في الوطن وفي المغترب، ظاهرة تستحقّ اهتمامًا كبيرًا ومعالجة جدّية هي ظاهرة النزعة الفردية في تصرّفاتنا الاجتماعيّة وأفكارنا وميولنا، وما يوجب الاهتمام الكبير لهذه الظاهرة هو أنّها تدخل في جميع أسباب حياتنا الاجتماعيّة، العائلية والعمومية على حدّ سواء، وهي مع الظاهرة الأخرى المصاحبة لها، أي ظاهرة الاستهزاء والاستخفاف، في مقدّمة الصعوبات الّتي تواجه الحركة القوميّة في عمل التربية والتنظيم القوميّين.
في أكثر بيوتنا، أو في الكثير منها على الأقلّ، يعتاد أفراد العائلة الواحدة أن يغيبوا عن منازلهم من غير موعد لعودتهم. وهذا الغياب بهذا الشكل هو قاعدة ثابتة. وكلّ فرد من أفراد العائلة ينحو نحوًا من الحياة أو العيش خاصًّا به. فحياته الفكرية والشعورية هي دائمًا غامضة لبقيّة العائلة. ويندُر أن تجد بين أفراد العائلة اشتراكًا مستمرًّا في التفكير في أمر واحد أو الشعور بموقف واحد، أللهم إلّا في المسائل التجارية، أو مسائل الغيرة على العِرض، أو مسألة استئجار منزل، أو طبخ طعام خاصّ أو ما شاكل. فإذا عرضت غير هذه المسائل اليومية، الضرورية، البسيطة، فالغالب أن يظهر التباين في الإدراك، والاختلاف في الشعور، والتضارب في الآراء، والحدّة في المواقف المتنافرة، إلّا حين تكون المسائل الجديدة غير هامّة للجميع فيجتمعون على اللامبالاة والإهمال، ويعود كلّ واحد إلى شأنه الخاصّ.
هنا أساس الداء. فالفرد الّذي يتعوّد أن لا يسمع رأيًا غير رأيه، وأن لا يشعر بالحاجة إلى الألفة والتفاهم لا يحترم رأي أحد، أو لا يشعر أنّه مكلّف أو مضطرّ للإصغاء إلى رأي غيره. ولماذا يجب أن يحترم رأي غيره ويُصغي إليه؟ ولماذا يجب أن يتوهّم أنّ هنالك رأيًا فوق رأيه مبنيًّا على علم وخبرة فوق علمه وخبرته؟
التصادم الفرديّ هو نتيجة هذه الظاهرة الاجتماعيّة الّتي ترافق جميع أعمالنا العمومية الّتي تحتاج إلى تآلف عدد كبير من الأفراد وتعاونهم في عمل مشترك. فكلّ فرد يعدّ العمل كلّه دائرة واحدة يجول فيها تفكيره. ففكرة أنّ العمل العامّ دوائرُ صغرى في دائرة كبرى، وأنّ كلّ فرد يجب أن يعمل ضمن الدائرة الّتي يقع فيها اختصاصُه وكفاءتُه، هي فكرة جديدة أوجدها التنظيم القوميّ الاجتماعيّ. ولذلك هي فكرة لا تزال غير مفهومة الفهم اللازم، حتّى عند أكثر القوميّين الاجتماعيّين أنفسهم، بدون استثناء المتنوّرين منهم.
كلّ اجتماع بسيط من اجتماعاتنا العائلية، أو الّتي توجدها الصدف، يبتدئ بالتصايح وينتهي بالاحتدام والهياج، إلّا فيما ندر. وكلّ جمعية أو حزب يتأسّس تبتدئ المشاحنات الفردية فيه منذ ابتداء عمله، حتّى ولو لم تكن المآرب الخصوصية النفعية هي السبب، وذلك بدافع النزعة الفردية. والحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ نفسه لم يسلم في بداءة عهده من المصادمات الفردية العائدة إلى تغلّب النزعة الفردية على العاملين. ومن هذه المصادمات ما حدث في عهد أوّل لجنة إذاعة أنشأتها عمدة الإذاعة بطلب من الزعيم، على عهد عميد الإذاعة الأوّل الأستاذ عبدالله قبرصي. فكلّ جلسة من جلسات هذه اللجنة كانت تتطوّر نحو المشاحنات الفردية على نظريات وآراء فردية يُبديها أصحابها بكثير من الحدّة وبكثير من الاستخفاف بنظريات وآراء البعض الآخر المخالِفة للأولى. وكثيرًا ما كان يصل هذا الاستخفاف إلى درجة التهكّم المستور أو المُعلَن، حتّى اضطرّ الزعيم للتدخّل بنفسه في جلسات اللجنة المذكورة، ولحلّ اللجنة أخيرًا منعًا لاستمرار المنافسات الفردية. وقد أعطى الزعيم الأعضاء درسًا وافيًا ثمّ حلّ اللجنة ووزّع أعضاءها على أعمال أخرى. وظهر أنّ الأعضاء استفادوا من الدرس والتقوا مرارًا في أعمال كثيرة في لجان ومكاتب وإدارات، ولم يعودوا إلى المنافسة، بل تغلّبوا على النزعة الفردية وضبطوا شعورهم وسيطروا على ميولهم وصاروا جزءًا من مجتمع واحد بالفعل، وسادهم حبّ الوئام والتفاهم. والفضل في ذلك لوجود مرجِع حكيم حازم يرجعون إليه ويولونه الفصل في أمورهم وتنظيمهم. ولولا هذا المرجع لكانت انتهت أعمالهم إلى ما انتهت إليه أعمال سواهم من الفشل والتخاذل والانحلال.
ولكن ليست جميع النزعات الفردية سليمة العاقبة كحادث أعضاء اللجنة الإذاعية الأولى في الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ. فبعض الأفراد تصل بهم النزعة الفردية إلى حدّ لا يرَوْنَ عنده فارقًا بين الاختصاصيّ في فنّ من الفنون ومن لا علم له به، أو بين المعلّم والتلميذ، والقائد والجنديّ أو الضابط الصغير. وتشتدّ هذه النزعة في من شعر بذكائه ونجاحه في ناحية من النواحي، أو من ظهر بشكل من الأشكال في عالم الأدب وحمله ذلك على الاغترار بنفسه. فإنّ أحد الّذين اهتمّوا بترجمة بعض الكتب لبعض المؤلّفين ترجمة غير منقودة دخل الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، وعلى الفور ابتدأ يخاطب الزعيم بلقب ”الرفيق“، ويناديه ”يا رفيقي“ وليس ”يا زعيمي“. وكان يستعمل هذا الأسلوب حتّى في المواقف الرسمية.
وكان الزعيم كلّف ذاك ”الرفيق“ بمهمّة، وحينذاك كانت الطامة الكبرى. فإنّ ”الأديب“ المذكور شعر بأنّه يحقّ له، بصفته أديبًا (على رأيه)، أن ينشر مقالات في الصحف يتكلّم فيها بالنيابة عن الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ كلّه ويعبّر عن موقفه، ويقول إنّ مهاجمة القوميّين الاجتماعيّين سجن الرمل في بيروت لإطلاق سراح رجال إدارتهم المسجونين فيه لم تكن سوى «عمل عدائيّ لحكومة ويشي وللاشتراكيين القوميّين الألمان، وحركة مؤيّدة لبريطانية وأسطولها في شرق المتوسّط». فلمّا دعا الزعيم العضو المذكور إلى الوقوف عند حدّه، وبيّن له غلطه في التعبير عن موقف الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ الّذي لا يرى من واجبه مبادلة دولة من الدول العداء قبل ظهور عدائها لسورية أو تأييد دولة ألحقت بسورية أضرارًا عظيمة ولم تبرهن على أنّها تنوي تغيير سياستها في صدد سورية، أجاب ذلك الفردُ الزعيمَ قائلًا: إنّه هو يحمل مسؤولية ما يكتب، وأنّه هو (الأديب العظيم صاحب المقام الخلودي) يقول إنّ بريطانية ستربح الحرب، وإنّ اكتساب صداقة هذه الدولة هو أفضل خطّة، وغير ذلك من الخلط، الّذي هو نتيجة تملُّك النزعة الفردية من نفسه واشتدادها، حتّى حملته على الغرور وعدم التمييز بين موقفه وموقف الزعيم، وبين صلاحياته وصلاحيات الزعيم. وكانت نتيجة تمادي هذا الفرد في الغرور الّذي حملته عليه شدّة نزعته الفردية أنّه طُرد من الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ وعاد إلى بيئة الفوضى الّتي لا نظام لها ولا مسؤوليات فيها، ليمدّ وسطها شهرته ويعمل لمنافعه.
النزعة الفردية تقود حتمًا إلى عدم الشعور بالمسؤولية. فكلّ من ارتبط بعهد اجتماعيّ سياسيّ لا يمنعه عهدُه من إطلاق العنان لنزعته الفردية الّتي شبّ عليها. وفي حالة حصول تصادم بين نزعته الفردية والنظام الّذي تعهّد له فضّل نزعته على النظام، غير عابئٍ بالأضرار الّتي تلحق بالمجتمع من هذا التفكّك. إنّه لم يتعوّد أن يُعطي حسابًا عن أعماله لأحد، ولم يتعوّد أن يحترم رأي غيره، ولا أنّ يُجلّ ويُكبِر العالمَ الخبير والسياسيّ القدير والقائد الخطير، بل تعوّد أن يرى أرض الله واسعة الفضاء أمامه دائمًا، فلماذا يجب أن يقيّد نفسه بالرجوع إلى مقام أعلى والوقوف أمام صاحب هذا المقام وقفة المُجلّ المُكبِر، المحترِمِ احترامًا عميقًا، يدعوه إلى وزن كلامه وقياس تعابيره بما يتّفق مع حرمة صاحب المرجِع ودرجة احترامه وإجلاله؟
صاحب النزعة الفردية يحسب كرامته الخاصّة، كما يراها هو، فوق كلّ الكرامات. وتدفعه شدّة الإحساس بكرامته إلى سلوك مسلك الحدّة دائمًا وإلى حسبان كلّ حدّة معاكسة لحدّته إهانة موجّهة إليه لا يقبلها، بل يفضّل أن يُدير ظهره لكلّ من لا يراعي إحساسه بذاته، مهما كانت العواقب وخيمةً بشرط أن لا تكون وخامتُها عليه.
إنّ الفوضى الّتي يتخبّط فيها مجتمعُنا خارج الحركة القوميّة الاجتماعيّة لا تسمح بتثقيف النفوس وفاقًا لمنهاج واحد، لأنّه لا يوجد هناك مرجِع تعليميّ محترم كلّ الاحترام وموقّر كلّ التوقير يُقبل عليه الكبير والصغير ويسلّم لحكمه الرفيع والوضيع. كلّ واحد ينادي برأيه ويسفّه رأي غيره إلّا إذا وافق هوى من نفسه أو كان مؤيّدًا له. ونادرون جدًّا هم الّذين يتحفّظون عند إبداء آرائهم، خصوصًا حين يكونون تجاه من عِلمُه فوق علمهم ومعرفتُه أوسع من معرفتهم ونظرتُه أعمق من نظراتهم.
قد يخطر في بال بعض المتأمّلين غير المتعمّقين أنّ هذه الظاهرة هي جزء من طبيعة شعبنا لا يتغيّر ولا يتبدّل. وكثيرون بنوا على هذا الاستنتاج المستعجل تشاؤمهم ويأسهم من قيام قائمة شعبنا، ولذلك لم يُقبلوا ولم يلبّوا الدعوة القوميّة الاجتماعيّة. ولكنّ الحقيقة ليست كما يتوهّمون. فهذه الظاهرة هي نتيجة انحلال نظامنا الاجتماعيّ السياسيّ وانحطاط مستوى ثقافتنا وتهذيبنا.
إنّ النزعة الفردية ليست طبيعة في السوريّ، وإن تكن متفشّية في أبناء الجيل الحاضر، لا فرق بين من تخرّج منهم من المدارس العليا والجامعات، ومن تخرّج من المدارس الابتدائية، أو من لم يدخل مدرسة قطّ ولم يسلك مسلك العلم. إنّها مرض طارئ يجب التغلّب عليه. وطريق الشفاء هي الطريق عينها لجميع الأمراض:
1. الاعتراف بوجود المرض.
2. قبول العلاج، حلوًا كان أو مرًّا.
والمصحّ الوحيد لهذا المرض، كما لغيره من أمراضنا الاجتماعيّة هو نظام الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ. والمقبلون على هذا النظام يجب أن يضعوا نصب أعينهم وجوب وضع جميع قواهم تحت تصرّف الإدارة العليا لمكافحة هذا الداء الوبيل في نفوسهم كما في نفوس رفقائهم. ولا يقولنّ أحد منهم «إنّ الداء في غيري وليس فيّ» فهذا القول من أقوى الأعراض الدالّة على وجود الداء في القائل. أمّا الصحيح فالإدارة القوميّة الاجتماعيّة لا تغفل عن صحّته وهي تعطيه براءة بها. ولكنّ الّذي يعطي نفسه براءة شخصية ويستغني بها عن براءة المنظّمة القوميّة الاجتماعيّة فهو من الّذين لا يريدون الاعتراف بوجود المرض ولا يقبلون علاجًا. إنّهم أصحّاء لأنفسهم ولكنّهم ليسوا أصحّاء للمجتمع.
يجب على القوميّين الاجتماعيّين أن يكافحوا النزعة الفردية مكافحتهم الاحتلال الأجنبيّ، بل أشدّ.
إنّ النزعة الفردية مرض عامّ فينا، وليس الاعتراف بوجوده عارًا على أحد، ولكنّ العار في تركها تتمكّن من النفس وتقضي على مواهبها الجميلة وفوائدها الجليلة. فهنالك رجال ذوو مواهب كبيرة تمنع مواهبَهم هذه الآفةُ الّتي لم يكد يسلم منها أحدٌ من أبناء الجيل الحاضر من شعبنا. والتغلّب عليها يبتدئ باعتماد قوّة الإرادة وصدق العزيمة.
ليست هذه الكلمة موجّهة إلى فرد معيّن. إنّها موجّهة إلى كلّ فرد ذي وجدان حيّ وغيرة حقيقية على سلامة مجتمعه ونهضة أمّته. وسنعود إلى الموضوع.
أنطون سعاده
”الزوبعة“، بوانس أيرس، العدد 49، أوّل آب 1942.