نظّمت مؤسسة سعاده للثقافة ندوة الكتاب القومي في عرزال سعاده، ضهور الشوير، في 13تموز 2022، حيث حاضر فيها الأستاذ يوسف الخوري والرفقاء:
الدكتور جهاد العقل،
الأستاذ وجدي المصري،
والدكتور ميلاد السبعلي،
وقدّمتها الرفيقة سمر حسّان.
حضر الندوة وفد مركزي من مجلس العمد برئاسة حضرة رئيس الحزب الرفيق د.علي حيدر، دولة نائب رئيس مجلس النواب اللبناني الياس بو صعب، ورئيسة المؤسسة الرفيقة ضياء حسان، وعدد من المواطنين والرفقاء.
في الختام ألقى عضو المكتب السياسي في الحزب الرفيق د.ميلاد السبعلي كلمة هذا نصها:
شكرًا لمؤسسة سعاده على هذه الندوة، وشكرًا لكم على حضوركم.
كنا بضعة طلاب من عائلات قومية في المدرسة.. وقد تعلّمنا من الأهل والرفقاء أن نواجه بالكلمة والمناقب والتميّز في زمن الحروب وسيطرة الميليشيات. جاءنا أستاذ لغة عربية، هو الأفضل على الإطلاق، لكنه مسؤول كتائبي. فكان لا بدّ من الإكثار من مقولات سعاده في كلّ الكتابات والخطب. وكان هو مرنًا في تقبّلها، كما ذكر، ونحن نعتبر تمريرها انتصارًا على قياسنا في تلك المرحلة.
اليوم، في حضرة سعاده وصنّين، تحضُرني أبيات علّمنا إياها الأستاذ يوسف الخوري في صفّ البريفيه، من قصيدة لسعيد عقل، وبقي إلقاؤه لها راسخًا في ذاكرتنا ووجداننا، تقول:
«جبالنا هي نحن، الرّيح تضربها، نقوى وما يُعطِ قصف الرّعد نختزنِ
عشنا هنا، لا نُهمّ، الفقرُ مرّ بنا ومرّ من شبر أرضٍ غرّه ففني
للفقر قلنا استرح، للمستبدّ أشِح غدًا على الرمل لن يبقى سوى الدّمن
ويبدأ الرفشُ في جمعٍ، هنا جثث، هناك أشلاءُ، فادفِن رفشُ، واندفن»
أعجبتني الروح الوطنية في هذه الأبيات، برغم الملاحظات الكثيرة على سعيد التي كنا اكتسبناها من أجواء القوميين وقتها، واعتبرت أن أستاذي الكتائبي، المحبَّب لنا، قد ضاهانا نحن القوميين بالصلابة والعزّ.
بعد عشر سنوات، في منتصف التسعينيات، وفي إحدى جلسات الفكر والشعر والسياسة والأدب التي كنا نعقدها في بيت سفير لبنان في طوكيو، الأستاذ المتميّز والراقي والمرهف سمير شمّا، والذي كلّفته بتأمين موعد ”لرئيس الحزب“ وقتها ”الأمين إنعام رعد“ مع رئيس حكومة اليابان، كما هو وارد في أحد مقالات الكتاب، وأمّن الموعد، وصرنا من أعزّ الأصدقاء. وهو من المثقفين الزحالنة المقربين من سعيد عقل، ويعرفون الكثير من أخباره وأسراره. وخلال نقاشنا في تلك الجلسة حول علاقة سعيد بسعاده، أخبرني أن تأثير سعاده على سعيد لم يقتصر على نقده ملحمة بنت يفتاح، وتحفيزه لسعيد على اختيار مواضيع من تاريخنا القومي، فكانت ملحمة قدموس، والتي لم تعجب سعاده، بل بقي هذا التأثير إلى فترة طويلة بعد غياب سعاده. وأحد الأمثلة على ذلك، على حدّ قول السفير، هو في رثاء سعيد للأخطل الصغير، في القصيدة التي وردت فيها هذه الأبيات، حيث قال سعيد للسفير إنه استوحاها من قول سعاده: «لقد شاهد أجدادُنا الفاتحين ومشَوا على بقاياهم، أما نحن فسنضع حدًّا للفتوحات…». عندها شعرت بالنشوة، وتمنيت لو كان الأستاذ يوسف الخوري حاضرًا تلك الجلسة.
أيها الحفل الكريم،
من السهل أن يكتبَ أحدُنا عن سعاده وراهنيته وريادته للقوميين الاجتماعيين. فالكثيرون منهم يقرأون بوجدانهم وعاطفتهم الجامحة تجاه الزعيم. أمّا أن نكتب بموضوعية علميّة للمواطنين، على اختلاف مشاربهم، عن ريادة الفكر وراهنيته، وضرورة وجود الحزب للمجتمع، وإمكانية تطوير خططه وآليات عمله، بعد كل المصاعب والأزمات التي عصفت به وبالأمّة، والتشويه والتهميش الذي طال الفكر من الخصوم والتلامذة أحيانًا، فهذه مهمّة شاقة وشائكة.
وقياس نسبة نجاحها يقوم على الانطباعات والردود والتقييمات التي تأتينا من غير القوميين، خاصة من قلة نادرة، كانت في مواقع الخصومة للفكر والحزب، وأجرت مراجعة نقدية جريئة لتجربتها، وقرأت ما نكتبُه باحترام وعمق وموضوعية، وقدّمت رأيها بشجاعة وفروسية ومحبة وصدق، كما فعل اليوم الأستاذ يوسف الخوري.. فقيّموا أنتم، لأن شهادتي به مجروحة.
الحزب الذي أراده سعاده، هو «فكرة وحركة تتناولان حياة أمّة بأسرها». هو وضع الفكرة، وأسس حركة في زمنه، لتتنكب مهام النهضة والوحدة وقتها. كان لا شكّ، مشروعُه النهضوي متناقضًا مع مشاريع الاستعمار ونشوء الكيان اليهودي وترسيخ الواقع الجيوسياسي الذي فرضه الحلفاء علينا بعد الحرب العالمية الأولى، فتخلّصوا من سعاده قبل أن تصبح الحركة قادرة على تحقيق الفكرة.
وبعد اغتياله، تعرض الحزب، على مدى عقود، لمكافحة منهجية، بعضها حروب ومؤامرات خارجية، وبعضها فشل داخلي، إلى أن بدأت الحركةُ بالضمور، وخططُها بالقصور، وزادت الفجوة بينها وبين الفكرة والغاية الأساسية، مما أدى إلى تزايد في التوتر والقلق والخلافات بين القوميين.
ومع تطور الأحداث، وتغير العهود والسياسات داخل الحزب، ونشوء التنظيمات والانقسامات، بقي التحدي لكلّ من تولى المسؤولية، هو كيف يبني حركة تستطيع تحقيق الغاية وتكون على مستوى الفكرة.
الفكرة تجوهرت مع الوقت، في ظلّ فشل الكثير من الأفكار الأخرى، الانعزالية منها والانفلاشية، الرجعية منها والتقدّمية. لكن الحركةَ وخططَها وآلياتِها بقيت تكافحُ للحفاظ على ما أرساه سعاده في الأربعينيات ، مع أن الزمن تغيّر كثيرًا في العقود الماضية، وتعقّدت أكثر مهام الوحدة والنهضة وتشعّبت، عما كانت عليه في الأربعينيات، ولم تعد الآليات التي ما زلنا نكافح لتقليدِها أو استخدامِها، كافيةً أو قادرةً على تحمّل هذه المهام وتحقيق الغاية والفكرة.
تقول الكثير من الدراسات إن العالم شهد تغييرات منذ الثمانينيات إلى اليوم، في مجالات التكنولوجيا والإدارة والقيادة والتنمية، أكثر مما شهِده في تاريخه. وكان الحزب، أبطأ حتى من المجتمع في تلقّف هذه التطورات، وكان كما المجتمع، متلقيًا مستهلكًا، قاصرًا عن مواكبة هذه التحولات والدخول المنتج والمبتكر إلى عصر المعرفة الرقمية وما يوفره من آليات وممكنات، يمكنها أن تعيد بناء الحركة، على قياس الفكرة.
فكانت كلّ مقالات هذا الكتاب، متمحورة حول هاجس أساسي: كيف يمكن أن نعيد بناء الحركة على قواعد العلم والتطور وما يقدمه العصر، لتكون على مستوى تحقيق الفكرة في المرحلة المقبلة، مع التركيز بجدية وجذرية، على بناء جيل جديد من القوميين الشباب، مترسخين بالفهم والإيمان العقائدي الصلب، ومتمتّعين بالعقلية الأخلاقية الجديدة، ويمتلكون في الوقت نفسه تخصصات معاصرة وأدوات حديثة، تجعلهم فاعلين ومنتجين ومبدعين في هذا العصر.
تقزيم الحركة إلى مستوى طموحات بعض القيادات ومناصريهم، في زمن معيّن، أو إلى مستوى فهمهم الموضعي للفكرة، هو بنيان مؤقت تجتاحه الأجيال الجديدة التي تنتمي على أساس وُسْع الفكرة التي وضعها سعاده، لا على أساس ضِيْق الخطط والسياسات والتبعيات التي تنتجها القيادات. وهذا أدى إلى نشوء المزيد من الفئويات والعهود، خاصة في ظلّ التلاعب بالديمقراطية الحقيقية داخل الحزب، وتعطيل آليات المراقبة والتقييم والمحاسبة والتصويب، التي وضعها سعاده في دستور الحزب، قبل سبعين عامًا من بدء تطبيق الحوكمة في الحكومات والمؤسسات في العالم.
لا بدّ من الاستفادة من تجارب الماضي. لكن الغرق في تبادل الاتهامات والتخوين وصراع المدارس والمقاربات والتفسيرات والفئويات والتصنيفات، والتراشق بالأحقاد والشتائم، وتناتش سعاده، وكلٌّ يدعي أنه الأقرب إليه، فهذا مضيعة للوقت والجهود، يؤدي إلى تطفيش أصحاب الكفاءات والقيم السامية والأخلاق الراقية، خاصة من بين الطلبة والشباب، ويجعل الفاجر يأكل مال التاجر، وتصبح السلبطة والتسلط والفجور والادعاء الفارغ والتبعية والتباهي بما هو ضحل من الإنجازات، هي سيدة الموقف.
كما أن الاكتفاء ببعض الأنشطة الاجتماعية والثقافية الموسمية، على أهميتها وضرورتها، لا يمكن أن تكون بديلًا عن الحركة، ولا آليةً كافية لتطبيق الفكرة.
إن التجدّد هو من سمات التطوّر في المؤسسات. والتجدّد لا يعني فقط إدخال عناصر جديدة إلى المؤسسة كيفما اتفق، بل يعني ترسيخ عملية البناء وفق قواعد أخلاقية وعقائدية ووجدانية من جهة، وعلى قواعد الاختصاص والمفاهيم المعاصرة للتفكير والعمل والإدارة والتكنولوجيا والإعلام والتربية والتنمية البشرية من جهة أخرى.
نحن اليوم على مسافة عشر سنوات من الذكرى المئوية للتأسيس. وهي مدة كافية، لوضع رؤية جديدة للعمل الحزبي، وترجمتها إلى خطة استراتيجية لاستعادة دور الحزب الريادي، وتجديد أجياله، وعصرنة آليات عمله، وتطبيق خطط مرحلية من ضمن نظام الفكر والنهج، وصولًا إلى وحدة حزبية شاملة تقوم على أساس دور استراتيجي للحزب على مساحة الوطن، لاستعادة التوازن والملاءمة مجدّدًا بين الفكرة والحركة، آخذين بعين الاعتبار التطورات الحياتية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في الأمّة والعالم.
في رحاب عرزالك وشهر استشهادك، نعاهدك يا حضرة الزعيم، أننا لن نألوَ جهدًا لتحقيق هذه الرؤية المعاصرة للعمل الحزبي، والعمل مع كل الرفقاء في كل المواقع والمؤسسات، بمحبة وحرص وجدّية وعقلانية وتواضع، لاستعادة وحدة الحزب ودوره، تدريجيًا، ليعود جاذبًا للمفكرين والمبدعين والمناضلين والأبطال والأجيال الجديدة وأصحاب المواهب، وليجسّدَ المؤسسات الفعّالة التي قلت عنها إنها أعظمَ أعمالك بعد وضع العقيدة، بعيدًا عن طبقات الفوضى والثرثرة. وكلّ ما دون ذلك هو تخدير وضياع وتبدّد.
ولتحيَ سورية وليحيَ سعاده.