غورو وسورية*

رجع غورو إلى سورية ورأسه مملوء بالتصورات الخيالية، وحقيبته مكتظة بالمذكّرات والقرارات من مالية وعسكرية واقتصادية. وأهمّ ما تحواه تلك الحقيبة هو نظامات الوحدة السورية، التي هي بعض خزعبلات فرنسة التي تأتيها في وطننا السيّء الطالع. فهي بعد أن قسّمت البلاد السورية إلى دويلات لا تلتئم مع راحة الوطنيين وإرادتهم، كما صرّح بذلك مندوبوها، رجعت الآن إلى القول أنْ لا حياة للبلاد السورية إلّا بالاتحاد، ويا ليتها تفعل.

يقول غورو إنّ الوحدة أمرٌ مقرَّر كما أنّ استقلال لبنان أمرٌ لا جدال فيه. وهذا يعني أنّ لبنان سيكون متّحدًا مع سورية اسمًا فقط، لأنّ في اتّحاده معها فعلًا خطرًا عظيمًا على إلهة الحرية ومنقذة الشعوب الضعيفة. فيتّضح لنا أنّ هذه الوحدة التي جاء بها غورو هي توحيد الميزانيات المالية فقط. وعلى هذه الطريقة فلبنان وسورية متّحدان منقسمان: متّحدان من حيث الميزانية ومرجعهما واحد وهو القومسيرية العليا(1)؛ ومنقسمان لأنهما دولتان مستقلتان الواحدة عن الأخرى تمام الاستقلال. وهو استقلال يخجل منه الرجل الحرّ ويهزأ به الصبيان.

إنّ الوحدة التي تعنيها فرنسة هي غير الوحدة الحقيقية، فهي تعني وحدة الميزانيات المالية ويكون مرجعها مندوبها السامي غورو، وغورو يُرجعها كلّها إلى فرنسة. أمّا الوحدة الحقيقية فهي وحدة البلاد السورية التي قسّمتها فرنسة حسبما يلتئم مع مصلحتها الاستعمارية لا مع إرادة الأهالي الوطنيين، كما صرّح بذلك مندوبوها ليبرّروا ذمّتهم من تبعة هذه الخطة الشنعاء. وبما أنّ فرنسة تعمل بإرادتها هي وليس بإرادة الوطنيين كما تزعم، فالبلاد السورية ستبقى مقسّمة كما هي. وما الوحدة إلّا وسيلة من وسائل فرنسة ليسهل على القومسيرية العليا جمع الأموال وإرسالها إلى فرنسة لتسدّ بها بعض جشعها.

لم يكد يصل غورو إلى بيروت إلّا وأخذت الوفود تتسابق إليه من جميع أنحاء سورية وهو يقابلها كلّ وفد على حدة. وبعد أن نفحهم بالوعود الحسنة، صرفهم شاكرين له اهتمامه بهم، مُظهِرين غاية السرور لتلطّفه بمقابلتهم، داعين له ولدولته بدوام العزّ والنصر، هاتفين «لتحيَ فرنسة أُمُّ الحرية ومحرّرة الشعوب الضعيفة»، غير عالمين أنّ مظاهراتهم هذه التي يحسبونها فارغة تُحدث ضررًا سياسية عظيمًا لأنها تعاكس جهاد الوطنيين. ومع أنّ غورو يعلم أنها مظاهرات فارغة، فهو يعلم أيضًا أنها حجّته الوحيدة أمام العالم للبقاء في سورية. لذلك يتكلّف هو مقابلتهم مضطرًّا ليُظهر للعالم حبّ السوريين لفرنسة وله على الخصوص.

لا نعلم ما يضمره لنا غورو طيّ فكره، وما تكنّه تلك الحقيبة التي أشغلت عقول السوريين. ولكن الذي يظهر هو أنّ غورو يقوم بعمل سياسي هامّ لا يعلم أحدٌ ماذا ستكون نتيجته إلّا بعد أن يتمّ. ولكن لا شيء هنالك يرجى منه خير. فغورو هو هو لم يتغيّر، وخطته الاستعمارية في [سورية] فهو يُلبسها في كلّ وقت ثوبًا وشكلًا جديدًا، ولكنهما لمقصد واحد ونتيجة واحدة. ومع كلّ ذلك فإنّ السوريين لا يزالون يعلّقون الآمال على رجوعه وعلى ما سيأتيه من الأعمال في سبيل إصلاح أوطانهم.

لماذا يقيم السوريون الاحتفالات والمظاهرات للاستعماريين؟ ألا يعلم إخواننا أنّ هذه المظاهرات التي يحسبونها فارغة تشجع الاستعماريين على التمادي في غيّهم وتزيدهم عتوًّا، فيحسبون أنّ البلاد بلادهم وأنّ أولئك الساكنين فيها ليسوا إلّا عبيدًا وجدوا لخدمتهم، وهم الآن لا يعاملونهم إلّا معاملة العبيد، فضلًا عن أنها تكون أصدق شهادة على أنّ السوريين راضون عن الحالة التي هم عليها مع الأوصياء. وزد على ذلك الاستقبالات الحافلة التي يعدّونها لغورو رئيس الاستعماريين دلالة على ما تكنّه صدور الوطنيين من الحبّ الشديد لهم. غير أنّ الشيخ الجليل، أي غبطة البطريرك الماروني، لم يشأ أن يُبقي ذلك الحبّ مكنونًا، بل أظهره بخطاب فاهى(2) به فخامة الجنرال غورو إذ قال: «إنه يكفينا أن نتأكد من وجود فرنسة بيننا فهذا عربون نهوض بلادنا واستقلالها. فنحن ثابتون على حبّها في كلّ الأحوال، فكيف إذا كان ممثلها بيننا الجنرال غورو. وإننا لنحبّ الجنرال غورو ونجلّه لا لكونه ممثلًا لفرنسة بل لأنه الجنرال غورو.»

وقال أيضًا: «إنه يحقّ للبلاد أن تفتخر به كما تفتخر فرنسة لأنه أنجز في مدة قصيرة أعمالًا يعجز عن مثلها غيره، وذلك بفضل صفاته الفريدة، فإنه خدم لبنان وسورية وفرنسة، فوفق بين المصلحتين.»

لا نعلم كيف يحقّ للبلاد السورية أن تفتخر بغورو كما تفتخر فرنسة؟ إننا نعلم أنّ غورو خدم بلاده أجلّ خدمة، وذلك بإجراءاته الاستعمارية في سورية كما في مراكش، لذلك يحقّ لفرنسة أن تفتخر به. غير أننا لا نعلم أنّ هنالك خدمات قام بها غورو في سبيل البلاد السورية سوى القبض على أعضاء مجلس الإدارة في لبنان والقضاء على استقلال سورية في معركة ميسلون. أمّا أنه أنجز في مدة قصيرة من الأعمال ما يعجز عنها غيره، فهذا لا ننساه له أبدًا، لأن القبض على أعضاء مجلس الإدارة في لبنان والقضاء على استقلال سورية بطريق الغدر لمّما يعجز بإتيان مثله أعظم طاغية في العالم.

ما هذا الاستقلال السخري الذي حصلت البلاد السورية عليه؟ وما هذه الأعمال الشائنة التي يأتيها رجال سورية أمام مستعمريهم ومستعبديهم؟ بل ما هذا الخضوع والتذلّل لذلك الذي أتاهم بصفة محرّر فلم يكن إلّا طاغية؟ ألم يكفهم الفخر الذي نالوه يوم ضربهم تلك الضربة القاضية في ميسلون؟ ألم يكفهم الشرف الذي نالوه يوم قبض على أعضاء مجلس الإدارة في لبنان وبعث بهم إلى الاعتقال في كورسيكة؟ ألم يكفهم كل هذا حتى يتسابقوا للسلام على ذلك الذي قضى على ما بقي من آمالهم بالحرية والاستقلال؟ أوَيظن بعض السوريين أنهم بمثل هذه الأعمال ينالون الاستقلال؟!


* أنطون سعاده، الجريدة، سان باولو، العدد 41، 13/8/1921.

(1) القومسيرية العليا: المفوَّضية العليا haut commissariat.

(2) فاهى (فعل): فَاهَاهُ: ناطَقَهُ وفاخَرَهُ.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *