صراع الشرق والغرب ينفجر في بيروت

الرفيق ميلاد السبعلي*

جاء انفجار مرفأ بيروت في توقيت دقيق للغاية على المستوى الداخلي اللبناني، وعلى المستويين الإقليمي والدولي. ولا بد من فهم هذا التوقيت، ليتبيّن لنا ما تعنيه المبادرة الفرنسية والاهتمام الدولي بتقديم مساعدات فورية لمواجهة نتائج الانفجار.

البعض فهم هذه المبادرة واللهفة الدولية على أنها فك للحصار وانهاء العزلة التي ساهمت منذ الصيف الماضي بتأجيج الأزمة الاقتصادية-المالية في لبنان. وهذا فهم خاطئ وتفكير مبسط وحالم Wishful Thinking لا يعبر عن واقع الحال.

فالأزمة المالية احتدمت كما أوضحنا في مقالات سابقة، نتيجة زيادة الضغط الأميركي في الصيف الماضي. وكان ذلك نتيجة انتصار وجهة نظر فريق ترامب في أميركا، الذي يؤثر زيادة الضغط المالي على لبنان والشام، حتى لو أدى الى الانهيار، بوجه رأي أميركي آخر كان يقول ان الانهيار سيكون لصالح حزب الله. وقد أدّى الحصار التصاعدي الذي اعتمدته السياسة الخارجية الأميركية، في ظل رفض ايران الذهاب الى مفاوضات مباشرة، الى تأجيج الأزمة الاقتصادية في لبنان، والذي ترافق مع الانتفاضة الشعبية التي اسقطت حكومة الحريري، وجاءت بحكومة دياب، كتحدي للطرح الأميركي الذي كان يومها يفضّل حكومة مستقلين برئاسة نواف سلام. لكن زيارة هيل وقتها، أعطت انطباعاً خادعاً بأن اميركا قد لا تمانع التعامل مع حكومة دياب، وأنها ستتعامل معها بإيجابية ان قامت بالإصلاحات المطلوبة ومضت قدما بمكافحة الفساد. لكن ذلك لم يحصل، بل أن فريق أميركا في لبنان، الذي يمثله حاكم المصرف المركزي ومعظم القيادات التقليدية الفاسدة، افشلت مفاوضات حكومة دياب مع صندوق النقد الدولي، من خلال طرح ارقام متناقضة لأرقام الحكومة، وقد ساندها بذلك المجلس النيابي من خلال لجنة المال والموازنة.

رافق ذلك مراهنة على قرار المحكمة الدولية وإدانة حزب الله من قبل خصومه المحليين ورعاتهم الخارجيين، والأمل بأن يترافق ذلك مع تحويل الملف الى مجلس الأمن والاستعانة بالبند السابع، الذي يضع حزب الله بمواجهة مفتوحة مع المجتمع الدولي. طبعاً كان ينتظر هكذا توجه فيتو روسي صيني مزدوج. كما أن فرنسا، التي أبقت علاقتها جيدة مع ايران، وبقيت الدولة الأوروبية الوحيدة التي لم تصنف حزب الله كتنظيم إرهابي، ارتأت أن تخرج عن توجه إدارة ترامب بالضغط المتصاعد، والذي قد يؤدي الى انهيار كامل في لبنان، في وقت يواجه ترامب صعوبات داخلية في الانتخابات الرئاسية القادمة، بعد تفشي وباء الكورونا وضربه لكل مكتسبات ترامب الداخلية الاقتصادية، وبعد أن فشلت الدبلوماسية الأميركية من خلال توسيط اليابان والكويت وعمان، بإقناع القيادة الإيرانية بقبول التفاوض مع ترامب قبل الانتخابات. فتدخل الفرنسي طارحاً وساطة متعددة الأوجه، فيها الترغيب من خلال انضمامها الى الموقف الروسي الصيني بما يتعلق بتحويل قرار المحكمة الدولية الى مجلس الأمن واعتماد البند السابع للتنفيذ. وفيها الترهيب من خلال التهديد بالانهيار التام ان لم يتم تغيير قواعد اللعبة الداخلية اللبنانية.

وهذا الموقف الفرنسي نقله أولا وزير الخارجية لو دريان قبل انفجار بيروت الى حزب الله، وهو ما أحبط الفريق الآخر المحلي، وصقور الإدارة الأميركية وإسرائيل. فحصل التفجير في مرفأ بيروت في هذا التوقيت، وكانت نتائجه كارثية أكثر مما قد يكون توقع من قام به. فتدخل ماكرون وحاول اقناع ترامب بأن المزيد من الضغط سيخدم حزب الله. وطلب تفويضاً لإدارة الملف، قد يؤدي الى نجاح معين في احتواء حزب الله في لبنان، وربما أدى الى اقناع ايران بالذهاب الى المفاوضات مع ادارة ترامب قبل الانتخابات.

بعد الانفجار، سارع ماكرون الى لبنان. لم يحمل معه أية ورقة سياسية. قال أنه سيستنفر العالم لتقديم مساعدات اغاثية لمواجهة تداعيات الانفجار، وأكد أن هذه المساعدات المباشرة لن تأتي من خلال الحكومة اللبنانية. وتحدث مع رؤساء الكتل النيابية، الذين طالبه بعضهم بحل مشكلة سلاح حزب الله وتحييد لبنان عن صراعات محاور المنطقة، فطالبهم بالاهتمام ببعض المسائل المحلية مثل الكهرباء والمياه والنفايات، بدل التلهي بالسياسة الدولية التي هي اكبر منهم، والاتفاق فيما بينهم على حل يشمل الجميع، بما في ذلك حزب الله. كما طرح ضرورة تغيير النظام. وقد اختلف اللبنانيون حول تفسير كلامه. فاعتبره البعض دعوة لعودة الجميع الى الحكومة، وتغيير الأسلوب والسلوك، واعتبره البعض الاخر دعوة لدفن الطائف وصياغة عقد اجتماعي جديد، بينما رفض آخرون، خاصة من السنية السياسية، المس بالطائف، وتساءلوا ان كان ماكرون نسق الموضوع مع العرب والسعودية خاصة.

حصل كل ذلك ايضاً، على أثر طرح السيد حسن نصرالله مسألة التوجه شرقاً، كرد على الحصار الأميركي الخانق، وإملاءات صندوق النقد الدولي. وهو كان طرحها بشكل عام منذ عدة اشهر، وعاد وكررها مؤخراً، مفيداً أن العراق وايران وسورية والصين وغيرهم جاهزون لتلقف هذا التوجه الجديد. وكان أن جاء وفد عراقي واجتمع مع الرئيس دياب، وطرح عدة خطوات عملية، كما جاءت عروض صينية بتنفيذ عدد من المشاريع الاستراتيجية، مثل حل مشكلة الكهرباء، وانشاء سكك حديد ونفق يربط بيروت بالبقاع، وتطوير المرافئ. إضافة الى العروض الإيرانية بتزويد لبنان بالنفط والاحتياجات الأخرى، خارج نطاق التعامل بالدولار الأميركي. كل ذلك أدى الى رفع الصراع الى مستويات استراتيجية دولية، تمس بالاستراتيجية الأميركية في المنطقة، التي تحاول خنق التوسع الصيني ووصوله الى الشرق الأوسط، سواء في المجال التكنولوجي وحرب الجيل الخامس للانترنت، أو في المجال اللوجستي ومشروع طريق وحزام الحرير الصيني، الذي يعتبره الاميركان عولمة صينية جديدة. إضافة الى محاصرة ايران وحلفائها.

بناء عليه، أصبح للأزمة في لبنان بعد التفجير، مستويات ثلاثة:

1- مستوى الدعم الإنساني والإغاثي لتخطي نتائج التفجير. وقد ركز المؤتمر الذي دعا اليه ماكرون والأمم المتحدة، على هذا المستوى فقط، مع شرط عدم مرور المساعدات من خلال الحكومة اللبنانية. ولم يتطرأ الى المستويين الاخرين.

2- مستوى حل الازمة الاقتصادية المالية، وهذا له شروط منتوعة من قبل الأطراف المتعددة. فالأميركي والسعودي يشترطون إصلاحات إدارية وسياسية تستبعد حزب الله من الحكومة وتحوله الى خاسر أكبر، من خلال حكومة مستقلة لا يشارك فيها الحزب وتكون خاضعة لإملاءات صندوق النقد الدولي. وقد صرح مندوب السعودية في مؤتمر المانحين، أن شروط المملكة هي الإصلاحات الإدارية والسياسية. بينما أعلنت مديرة صندوق النقد شروطاً أربعة للإصلاحات المالية والإدارية. فيما الموقف الفرنسي يدعو الى استعادة الأطراف السياسية التقليدية، لثقة الشعب، على حد تعبير ماكرون، والتفاهم فيما بينهم بما في ذلك حزب الله على حل وحكومة وحدة وطنية يشارك فيها الجميع، تقوم بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة للافراج عن مليارات الدولارات التي تسهم في حل الأزمة الاقتصادية المالية.

3- مستوى الاستراتيجية الاقتصادية، والخيار بين التوجه شرقاً أو التوجه غرباً أو الحياد، مع أن الحياد الاستراتيجي لا يعني فقط الانصياع الى الاملاءات الغربية وارضاء العرب وعدم ازعاج إسرائيل، كما يفهمه معظم المطالبين به. بل يفترض أن يكون عدم الانحياز لا للشرق ولا للغرب، والتعامل مع الجميع على أساس المصلحة الوطنية العليا. والواضح أن المسعى الفرنسي، بكل أبعاده، يسعى الى ضرب فكرة التوجه شرقاً، والركون الى المجتمع الدولي الذي تسيطر عليه اميركا وحلفائها الغربيين. ويتجلى ذلك في العروض التي انهالت على لبنان، لإعادة بناء وتشغيل مرفأ بيروت. فالفرنسي عرض بنائه على قاعدة الـ BOT مع إدارة لفترة 25 سنة. تلى ذلك اعلان نائب الرئيس التركي، ابان زيارته الى بيروت، أن تركيا تقدم “شك مفتوح” لإعادة بناء المرفأ وتشغيله. تبع ذلك عرضاً إماراتياً مشابها. كما أعربت الصين وقطر ايضاً عن رغبتها في ذلك. كما صرحت السفيرة الاميركية في بيروت ان بلادها ستعمل على بناء معامل كهرباء جديدة في حال نجحت خطة ماكرون.

الصراع اليوم اذاً، يتفاقم على نار حامية بعد التفجير والتدمير والخسائر. والمطالب تزيد يومياً، من تحقيق دولي في التفجير، بحجة عدم استقلالية الأجهزة المحلية، الى إصلاحات ضرورية للإفراج عن الأموال اللازمة لحل الأزمة الاقتصادية المالية، الى إصلاحات سياسية غير متوافق عليها، يراها البعض (السعودية وصقور أميركا) ابعاداً لحزب الله عن السلطة التنفيذية كشرط إضافي للمساهمة في حل الأزمة الاقتصادية، ويراها البعض الاخر (فرنسا) تغييراً في النظام، أو في الحد الأدنى تسوية تؤدي الى ولادة حكومة وحدة وطنية بمشاركة حزب الله، قد تسهم في حلحلة في الموقف الإيراني تجاه إدارة ترامب.

يبقى معرفة مواقف الأطراف اللبنانية من هذه الطروحات، مع أن معظمها يتأثر بمواقف خارجية. وفي هذا المجال، فإن جميع الأطراف لا يمكنها الا أن تقبل المساعدات الدولية الاسعافية من أي جهة أتت، برغم مسألة عدم مرورها عبر الحكومة اللبنانية والأجهزة الرسمية. ومعظم الأفرقاء يؤيدون الإصلاحات، ولو كلامياً، ويختلفون على تحديد تفاصيلها وأسباب الهدر والفساد ويتقاذفون الاتهامات بشأنها. كما أن موضوع الحكومة الجديدة وشكلها والمشاركين فيها لا تزال مسألة غامضة، وغير متفق عليها حتى بين الأطراف الحليفة. وموضوع الاستراتيجية الاقتصادية والجيوسياسية للبلاد هي مسألة خلاف عامودي كبير، خاصة وأن أقرب حلفاء حزب الله لم يحبذوا فكرة التوجه شرقاً، كون معظمهم غالباً ما يراهنون على القوى الغربية لتحقيق أهدافهم المحلية.

لذلك، فإن ما حصل، من تفجير المرفأ، الى تدفق المساعدات، ومبادرة ماكرون، واستقالة الحكومة، قد لا تؤدي بالضرورة الى الانفراج، خاصة إذا استمر الصراع الدولي والإقليمي متفجراً. وقد نشهد مرحلة فراغ في البلاد، تحولها الى ساحة لتبادل الرسائل الساخنة والباردة بين الأطراف المتصارعة في الإقليم. في المقابل، إذا نجح ماكرون بصياغة تسوية مرحلية تقرب بين ايران وأميركا، وتحفظ مصالح الاخرين، فقد يؤدي ذلك الى بعض الانفراجات المحلية وبدء مرحلة جديدة من إعادة الاعمار والتعافي الاقتصادي المرحلي.

يبقى ضرورة التذكير بأن إعادة الطبقة السياسية الاقطاعية الطائفية الفاسدة التي نهبت البلاد وأموال الناس، وهربت أموالها الى الخارج، لن تستطيع أن تبني دولة حديثة لها صفة النهوض والوحدة والاستدامة.

وفرنسا التي بنت اساسات النظام الطائفي في لبنان، وتحالفت تاريخيا مع سياسيي والطوائف وامراء حروبها، وغطت على فسادهم وتسلطهم واهمالهم وغطرستهم لسنوات، لن تستطيع أن تقدم حلولاً جذرية للشعب اللبناني على طريقة تسويات رئيسها، الذي خاطب القوى السياسية اللبنانية قائلاً: “أنا رئيس فرنسا، ولا تتحدثوا معي كأنني مالك السحر.. افهموا أنه يجب أن تتحاوروا مع الآخرين وتجدوا الصيغة للعيش معاً”.

ولعل التعبير الأفضل من سياسة ماكرون، جاء مؤخراً على لسان السيدة غوليه، العضو في البرلمان الفرنسي: إن لبنان الذي يواجه “انهياراً شاملاً على كل الأصعدة الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما عانى من جيرانه، قد يتحول من سويسرا الشرق الأوسط إلى دولة فاشلة، مليئة بالفساد، تعيش الغالبية العظمى من سكانها في حالة من عدم الاستقرار واليأس”. معتبرة أن “عملية إعادة إعمار بيروت يجب أن تترافق مع عملية إعادة بناء الدولة اللبنانية على أسس جديدة”.

وأضافت إلى أن “لبنان بحاجة اليوم لجمهورية ثالثة، ولتجاوز هذا الوضع يجب القيام بإصلاحات سياسية جذرية تضع حداً للدولة الطائفية، وتُقيم علمانية حقيقية تضمن عدم التمييز بين المواطنين.”

*كاتب وباحث أكاديمي، عضو المكتب السياسي المركزي في الحزب السوري القومي الإجتماعي

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *