الرفيق ميلاد السبعلي*
يقول البطريرك الراعي في عظة اليوم: “أنَّ الهدف الأوّل والأساس من نظام الحياد الناشط والفاعل بالنسبة إلى الداخل، هو شدّ أواصر وحدة لبنان الداخليَّة، وتثبيت كيانه وسيادته واستقلاله، وتعزيز الشراكة الوطنيَّة والاستقرار والحوكمة الرشيدة، في دولةٍ قادرة بقوَّة الدستور والميثاق والقانون والمؤسَّسَات على الدفاع عن نفسها بوجه أيّ اعتداء”.
ويتابع عن زيارة وزير خارجية فرنسا: “أُسعِدنا بزيارة وزير خارجية فرنسا جان ايف لودريان، يوم الخميس الفائت الذي أعرب عن دعم فرنسا لمشروع “الحياد الناشط والفاعل”، وعن مساعدتها الماليَّة للمدارس الكاثوليكيَّة الفرنكوفونيَّة، وعن استعدادها الدائم لمساعدة لبنان بالمبلغ الذي رصده مؤتمر “سيدر” شرط المباشرة بالاصلاحات. فأعربنا له عن مشاعر الشكر والامتنان”.
لو دريان جاء بشكل اساسي ليعلن دعم ما أسماه البطريرك “المدارس الكاثوليكية الفرانكوفونية”، مع ان العديد من المدارس الفرانكوفونية التي ستدعمها فرنسا ليست كاثوليكية… كلام الوزير عن الحياد جاء من باب رفع العتب. وكلامه عن سيدر معروف وليس بحاجة لزيارة خاصة.
ولكن لا بد من لفت نظر غبطته، الى بعض التناقض بين ما قاله عن الهدف الداخلي للحياد الناشط والفاعل كما يسميه، الذي يحدده بتحديد جميل للغاية عندما يقول: “شدّ أواصر وحدة لبنان الداخليَّة، وتثبيت كيانه وسيادته واستقلاله، وتعزيز الشراكة الوطنيَّة”، وبين شكره وامتنانه للسيد لودريان، لمساعدة فرنسا للمدارس “الفرانكوفونية الكاثوليكية” على حد تعبيره.
أين تصبح أواصر الوحدة وتثبيت سيادة لبنان واستقلاله وتعزيز الشراكة الوطنية، يا غبطة البطريرك، اذا جاء غداً وزير خارجية اميركا بمساعدات للمدارس الانكلوفونية البروتستانطية، ووزير خارجية ايران بمساعدات للمدارس الشيعية التي تدين بالتوجه الايراني، ووزير خارجية روسيا بمساعدات للمدارس الارثوذكسية، وتنافس وزيري خارجية تركيا والسعودية على إغداق المساعدات للمدارس السنية التي تدعم الاخوان المسلمين أو الوهابية، وختمها وزير دولة اخرى، ربما بريطانيا، لدعم المدارس الدرزية. وتضطر غبطتك، بحكم الحياد الفاعل والناشط، أن تعبر عن شكرك وامتنانك لكل منهم؟؟!!
خاصة وأن مدارسنا الخاصة، التي يعود الكثير منها الى ما قبل اعلان الجنرال الفرنسي غورو تأسيس دولة لبنان منذ مئة عام، وكان الهدف منها خدمة النظام الملّي المذهبي الموروث عن العثمانيين، والتأكد من أن العلم المتوفر لن يؤدي الى خروج متعلمي الطوائف عن سلطة الطائفة الدينية والاقطاعية ومعتقلاتها الفكرية، وبالتالي لن يؤدي الى نهضة البلاد ووحدتها وتحررها واستقلالها الحقيقي. ومعظم هذه المؤسسات انضوت مع الوقت في تكتلات مذهبية موزعة على الطوائف والمذاهب، تنتعش مع النهوض السياسي للطائفة، وتخفت مع احباطاتها.
يا صاحب الغبطة،
كنا اقتنعنا أكثر بصدق نظرية الحياد الناشط والفاعل لو أنك طالبت الوزير لودريان، بمساعدة جميع المدارس الخاصة المتعثرة كما وصفتها، أو حتى بمساعدة كامل القطاع التربوي في لبنان، الذي يعاني الأمرين في مواجهة جائحة الكورونا والازمة الاقتصادية في البلاد. وكان موقفك العملي، عندها، أكثر انسجاماً مع توصيفك لطرحك حول الحياد الناشط والفاعل. والعلاقة بين الدولة الفرنسية وبين الدولة اللبنانية اقرب الى توصيفك للسيادة والاستقلال، من علاقة مع رعايا أو جاليات فرنسية عندنا.
هذا مع إعادة التأكيد أننا ضد تدخل رجال الدين جميعهم في السياسة، لكي نحميهم من النقد. وأننا مع فصل الدين عن الدولة، ومع فصل التربية عن السلطات الدينية.
مع العلم أنه في بلاد الوزير لو دريان، تشكل المدارس الخاصة (معظمها علمانية – لاييك) 15% فقط من مجموع المدارس الابتدائية، و20% من المدارس التكميلية، و30% من مدارس الليسيه الثانوية. وليس 70% كما في بلاد الأرز. ولو أعلن الوزير لودريان في بلاده عن دعم المدارس الكاثوليكية الفرنسية فقط، لكان واجه ثورة انتقادات حادة مختلفة عن مظاهر التبجيل والقداسة والامتنان وتقبيل الأيادي التي لاقاها عندنا.
وفي بلاد الوزير لو دريان ايضاً، هناك فصل بين الدين والدولة، ومنع لتدخل رجال الدين في السياسة والقضاء، وفصل التربية عن المؤسسات الدينية، منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر، ايام جان لوك وفولتير وجان جاك روسو والثورة الفرنسية. وهذا الفصل كان اساس مفاهيم الحرية والسيادة والاستقلال التي جاءت بها تلك الثورة، والتي يستلهمها الكثير من اللبنانيين واهل المشرق والعروبة، فيأخذون بنتائجها دون المس بالأسس التي قامت عليها. إذ لا تستقيم مفاهيم السيادة والحرية والاستقلال فيما الشعب والدولة غارقة بالتحاصص المذهبي والتبعيات الخارجية على اساس طائفي، وتبقى شعارات سطحية نناقضها عند اول مفترق، كما فعل غبطته بين مقطع وآخر في نفس الوعظة اليوم…
26 تموز 2020
*كاتب وباحث أكاديمي، عضو المكتب السياسي المركزي في الحزب السوري القومي الإجتماعي